تفسير صيغ الوثائق العدلية (الجزء الخامس)
ثالثا- التعريف ببعض قواعد تفسير التصرفات.
بالرجوع إلى الفصل من 462 من ق.ل.ع
وما بعده، نجد أن هذا القانون نص على بعض القواعد التفسيرية التي يمكن اللجوء
إليها عند تفسير صيغ الوثائق، ويلاحظ على هذه القواعد أنه يمكن إرجاعها إلى أصلها
الفقهي أو الأصولي الذي عرف عند علماء الشريعة الإسلامية.
فمن هذه القواعد التفسيرية ما
ورد في الفقرة الأخيرة من الفصل 462 من ق.ل.ع، التي جاء فيها أنه
"عندما يكون للتأويل موجب، يلزم البحث عن قصد المتعاقدين دون الوقوف عند
المعنى الحرفي للألفاظ، ولا عند تركيب الجمل".
وهي نفس القاعدة التي وردت في الفقه
الإسلامي تحت مسمى "الأمور بمقاصدها" وهي القاعدة التي تندرج في سياق
حديث "الأعمال بالنيات " وهي تفيد أن التفسير بالمقاصد والمعاني لا
بالألفاظ والمباني.
ويتبين من هذه القاعدة أن على القاضي أن
يستوضح عن النية المشتركة للمتعاقدين حسب القصد المتوخى من العقد، لا بالوقوف عند
المعنى الحرفي للألفاظ. وهذا لا يعني بسط سلطة القاضي على العقد، فهو مقيد به
ويعمل في ضوء جميع بنوده وفي ضوء الإطار العام للمعاملة وظروفها وملابساتها مستعينا
في ذلك بشهادة الشهود والقرائن القوية المنضبطة.
ومن أجل رعاية هذه القاعدة استثنى المشرع من
مبدأ الإثبات بالكتابة "الحالة التي يراد فيها إثبات وقائع من
شأنها أن تبين مدلول شروط العقد الغامضة أو المبهمة أو تحدد مداها، أو تقيم الدليل
على تنفيذها".[1]
ومن ضمن تأكيد القضاء لهذه القاعدة ما جاء
في قرار للمجلس الأعلى سابقا حيث ورد فيه أنه "عندما صرحت المحكمة بأنه ينتج
من عناصر الدعوى أن المتعاقدين اختارا التمشي مع مقتضيات الفصل 84 من ظهير التحفيظ
وأن العقد ينص على أن للمشتري جميع الصلاحيات ليطلب من المحافظ تقييد هذا العقد في
ملف المطلب رقم... بدون إشارة إلى أي واجب آخر على المشتري بالتدخل في مسطرة
التحفيظ بكيفية أخرى. فإنها بما لديها من سلطة تقديرية استنتجت ما اتفق عليه
الطرفان بدون ارتكاب أي تحريف للعقد إذا لم تتجاوز ما لها من حق في تأويل العقود
عند الإجمال والإبهام ولا أي خرق للقانون".[2]
ومن هذه القواعد قاعدة: "إعمال الكلام
أولى من إهماله" التي ورد النص على مضمونها في الفصل 465 من
ق.ل.ع الذي جاء فيه أنه "إذا أمكن حمل عبارة وبند على معنيين كان
حمله على المعنى الذي يعطيه بعض الأثر أولى من حمله على المعنى الذي يجرده عن كل
أثر".
ومرد هذه القاعدة إلى أن أعمال المكلفين
تصان عن العبث فحمل كلامهم على الجد أولى من حمله على العبث، والعمل به أولى من
تركه. قال ابن نجيم: "متى أمكن، فإن لم يمكن أهمل، ولذا اتفق أصحابنا في
الأصول على أن الحقيقة إذا كانت متعذرة فإنه يصار إلى المجاز".[3]
ومعنى إعمال الكلام "إعطاؤه حكما
شرعيا، ومعنى إهماله عدم ترتب ثمرة علمية عليه. ومآل هذه القاعدة أن المسلم العاقل
يصان كلامه عن الإلغاء ما أمكن، بأن ينظر إلى الوجه المقتضي لتصحيح كلامه فيحمل
أولا على الحقيقة لأنها الأصل، فإن تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز. إلا عند عدم
الإمكان فيلغى، فجميع الألفاظ الصادرة من المكلف سواء في مقام فهم التشريع أو
التصرف إذا كان حملها على أحد المعاني الممكنة يترتب عليه حكم، وحملها على معنى
آخر يقتضيها لا يترتب عليه حكم. فالواجب حمل هذه الألفاظ على المعنى المفيد لحكم جديد،
لأن خلافه إهمال وإلغاء وكلام العقلاء يصان عن الإلغاء والإهمال ما أمكن، لأن
إهمال الكلام هو اعتباره لغوا وعبثا، والعقل والدين يمنعان المرء من أن يتكلم بما
لا فائدة فيه فحمل كلام العاقل على الصحة واجب فلا يهمل ما أمكن استعماله في معنى
يناسبه".[4]
وقد أكد المجلس الأعلى سابقا هذه القاعدة
وطبقها في قرار جاء فيه: "حيث يستفاد من وثائق الملف ومن القرار المطلوب نقضه
الصادر عن استئنافية فاس بتاريخ 12 يناير 1982 أن الطاعن رفع دعوى أمام ابتدائية
تازة يطلب فيها الحكم على المطلوب بإتمام البيع الذي أبرمه معه بتاريخ 23 يناير
1976 والذي بمقتضاه باع له نصف حقوقه في العقار المحفظ بالرسم العقاري رقم..... لأن
المحافظ رفض أن يسجل هذا البيع على الرسم العقاري إلى أن يبرم ملحق يبين الغموض
الذي يشوبه، وبتاريخ 23 غشت 1978 قضت المحكمة غيابيا برفض الدعوى
فاستأنف الطاعن هذا الحكم. وفي التاريخ المشار إليه أعلاه قضت استئنافية فاس
بتأييد الحكم الابتدائي بعلة أن عقد البيع يشير إلى أن مساحة المبيع هي 3750 مترا
مربعا وأن هذه المساحة تشمل ربع مساحة العقار والتي هي 18.760 مترا مربعا فيكون
ربعها هو 4690 مترا مربعا أي أكثر مما ورد في العقد وأن هناك تدافع بين أجزاء
العقد.
حيث يعيب الطاعن القرار بخرق القانون لكونه
أدلى بعقد البيع الذي يتضمن أن المطلوب باع له 3750 مترا مربعا من العقار المحفظ
بالرسم العقاري رقم.... وأن هذه المساحة تمثل ربع مساحة العقار، فمن حقه أن
يطالب بتنفيذ التزام البائع وبتسجيل البيع على الرسم العقاري. وأنه لا يوجد في
القانون ما يمنع مثل هذا البيع وأن المحكمة لما رفضت دعواه تكون قد خرقت القانون.
حقا، فإن الغموض الناشئ عن المقارنة بين
بنود العقد المتعلقة بتحديد الشيء المبيع لا يؤدي إلى تجريد العقد من كل أثر
فإعمال العقد خير من إهماله "الفصل 465"وهذا الإعمال للعقد يقتضي من
المحكمة أن تقوم بتأويله وتبحث عن قصد المتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي
للألفاظ ولا عند تركيب الجمل "الفصل 462"، وأن المحكمة لما جردت العقد
من كل أثر والحال أنه يمكن التوفيق بين هذه البنود عن طريق التأويل تكون قد خرقت
المقتضيات المذكورة وعرضت قرارها للنقض".[5]
ومن بين القواعد التفسيرية قاعدة
"الأصل في الكلام الحقيقة"، التي ورد العمل بها في الفصل 466 من ق.ل.ع
الذي ينص على أنه : "يلزم فهم الألفاظ المستعملة حسب معناها الحقيقي ومدلولها
المعتاد في مكان إبرام العقد، إلا إذا ثبت أنه قصد استعمالها في معنى خاص. وإذا
كان للفظ معنى اصطلاحي، افترض أنه استعمل فيه".
وبمقتضى هذه القاعدة، فعند التعارض بين
الحقيقة والمجاز يصير الأصل إلى الحقيقة ترجيحا وتغليبا، وقد سبق أن رأينا في حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" كيف
ذهب الحنفية والمالكية إلى حمل الافتراق على الأقوال فرد عليهم الشافعية والحنابلة
بأنه يحمل على الأبدان حقيقة والأصل في الكلام الحقيقة. وعليه لو أن اللفظ كان له
عدة معان باختلاف الأمكنة، فإن حمله على معنى المكان الذي أبرم فيه العقد أولى من
حمله على آخر، وحمل اللفظ على معناه الاصطلاحي أولى من حمله على غيره؛ وقس على ذلك.[6]
ومنها قاعدة "إذا اتسع الأمر ضاق"،
التي جاء تطبيقها في الفصل 467 من ق.ل.ع، الذي ورد فيه النص بما يلي:
"التنازل عن الحق يجب أن يكون له مفهوم ضيق، ولا يكون له إلا المدى الذي يظهر
بوضوح من الألفاظ المستعملة ممن أجراه، ولا يسوغ التوسع فيه عن طريق التأويل.
والعقود التي يثور الشك حول مدلولها لا تصلح أساسا لاستنتاج التنازل منها".
وهو نص يتبين منه أن لفظ التنازل له معنى
واسع، غير أنه يجب أن يفهم في إطاره الضيق؛ فالعبرة في التنازل بنطاقه المحدود، إذ
لا يجوز التوسع فيه، لأن الأصل في الذمة البراءة، ولا يتم العمل بالتنازل إذا اتحد
السبب في دعويين إلا عند النص الصريح. وهو ما جاء في الفصل 468 من ق.ل.ع الذي نص
على أنه: "إذا كانت لشخص واحد من أجل سبب واحد، دعويان، فإن اختياره إحداهما
لا يمكن أن يحمل على تنازله عن الأخرى".
ومن القواعد التفسيرية قاعدة "ذكر بعض
ما لا يتجزأ كذكر كله" وهي التي ورد النص على مضمونها في الفصل 469 من
ق.ل.ع الذي جاء فيه: "عندما تذكر في العقد حالة لتطبيق الالتزام،
فينبغي أن لا يفهم من ذلك أنه قد قصد تحديد مجاله بها، دون غيرها من بقية
الحالات التي لم تذكر".
والأصل في هذه القاعدة يرجع إلى أن ما لا
يبعض يؤخذ ككل، والإقرار البسيط أو الموصوف لا يجزأ؛ فلو دفع أحد المتعاقدين ببعض
بنود العقد فان ذلك لا يعني تركه لغيرها ما لم يعبر صراحة على ذلك.[7]
ومن القواعد قاعدة: "العادة والعرف محكمان" المنصوص على بعض تطبيقاتها في الفصل 470 من ق.ل.ع الذي جاء فيه: "إذا ذكر في الالتزام، المبلغ أو الوزن أو المقدار على وجه التقريب بعبارتي "ما يقارب وتقريبا" وغيرهما من العبارات المماثلة، وجب الأخذ بالتسامح الذي تقضي به عادات التجارة أو عرف المكان".
فمن المبادئ التشريعية العمل بالعادات
والأعراف إلى جانب النص، خاصة في إطار القواعد المكملة –غير الآمرة-. فكثيرا ما
ينص المشرع على قواعد ويجيز العمل بما يخالفها إما بالاتفاق أو بالعادات والأعراف.
والقاضي يفسر العقد عند غموضه بالعادات
والأعراف في القواعد المكملة وفيما يحيل عليه النص. وقد درج العمل المدني – ومنه
العقاري- على جملة من العادات والأعراف في المبيع والثمن وتسليم المبيع وفي تحكيم
العادة والعرف في المصطلحات المتداولة، وفي تغليب ما يكتب بالحروف على ما يكتب
بالأرقام إلى أن يثبت العكس. وهو ما تم النص عليه صراحة في الفصل 471
من ق.ل.ع عند قوله: "إذا كتب المبلغ أو المقدار بالحروف وبالأرقام، وجب عند
الاختلاف الاعتداد بالمبلغ المكتوب بالحروف ما لم يثبت بوضوح الجانب الذي اعتراه
الغلط".
وفي الفصل 472 من نفس القانون الذي جاء فيه:
"إذا كتب المبلغ أو المقدار بالحروف عدة مرات، وجب الاعتداد عند الاختلاف
بالمبلغ أو المقدار الأقل، ما لم يثبت بوضوح الجانب الذي اعتراه الغلط".
ومن قواعد التفسير قاعدة "الأصل في
الشك عدم الفعل" التي ورد تطبيقها في الفصل 473 من ق.ل.ع الذي جاء فيه:
"عند الشك يؤول الالتزام بالمعنى الأكثر فائدة للملتزم".
وبموجب هذه القاعدة لو حصل شك في نطاق
الالتزام، وجب العمل بقليله، ولو وقع شك في بند من بنود العقد أو التزام فيه وجب
تركه، وعند الشك في المقدار يعمل بقليله كما جاء في الفصل 472 من
ق.ل.ع المذكور أعلاه.
إلا أن تطبيق هذه القاعدة التي
تدخل-كما سبق أن بينا- في باب القانون لا في باب الواقع قد يحدث ضررا بالطرف الآخر
الملتزم له، خاصة إذا لم يصدر من جانبه أي خطأ.
ويحدث ذلك في باب التصرفات العقارية بسبب
غلط العدول في القانون، الذي قد يؤدي إلى الخطأ المهني الجسيم.
وللتدليل على ذلك نسوق هذا المثال : لو أن
عدلا كتب لشخصين عقد بيع، اتفق المتبايعان فيه في مسألة الثمن على أن هذا الثمن
يدفع على وجه الحلول أو عبر أقساط تفرق على مدة معينة.
فقد يظن العدل – وهذا يحصل كثيرا في الواقع
العملي- أن كون الثمن بقي في ذمة المشتري هو مما يتنافى مع ناجزية البيع وتمامه،
وأنه يدخل في باب البيع المعلق على شرط مفسد للبيع.
وبموجب هذا الظن يقع العدل في غلط في
القانون، فيظن أن القاعدة القانونية تقول كذا، بينما هي في الواقع تقول كذا.
وهذا الغلط قد يدفع العدل إلى أن يقترح على
الطرفين أن يكتبا عقد بيع يرد فيه ذكر الثمن دون بيان طريقة أدائه، ثم يكتب لهما
عقدا آخر يتضمن أن أحد الطرفين – وهو المشتري في عقد البيع- يقر بأنه
مدين للآخر – وهو البائع في عقد البيع- بمبلغ مالي معين، هو ما يقابل ثمن الشراء.
فإذا ما أنكر المشتري العقد الثاني وتمسك
بالعقد الأول، فإن النظر إلى عقد البيع على أساس أن العبارة التي تثير الشك ينبغي
تفسيرها لفائدة الملتزم، الذي يعد هنا هو المشتري من شأنه أن يجعل البائع لا
يتقاضى الثمن. لذلك ينبغي أن يفسر عقد البيع –هنا- في ظل عقد الإقرار بالدين؛ ولا
يتم تفسير عقد البيع في ضوء قاعدة تفسير الشك لفائدة الملتزم؛ إلا في الحالة التي
يصدر فيها حكم قضائي نهائي بزورية عقد الإقرار بالدين.
وفي هذه الحالة يمكن
للبائع متابعة العدل في ظل قواعد المسؤولية المدنية للتعويض عن الضرر الذي لحقه
بسبب الخطأ الجسيم الذي ارتكبه هذا العدل. وسواء تم ذلك أم لا فيمكن تقرير
المسؤولية الأدبية في حق هذا العدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- الفقرة الأخيرة من
الفصل 444 من ق.ل.ع.
[2]-قرار مدني عدد
108 بتاريخ 24 يناير 1968،منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى.عدد 13،السنة
1970.ص 8.
[3]- أحمد ابن نجيم،
الأشباه والنظائر، مؤسسة الحلبي، القاهرة، 1968، ص 135.
[4]- محمود مصطفى عبود
هرموش، القاعدة الكلية : إعمال الكلام أولى من إهماله، وأثرها في الأصول، المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1987 ص 50.
[5]- قرار عدد 752
بتاريخ فاتح دجنبر 1982 ملف مدني عدد 92853 مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 31،
مارس 1983، ص 32-33.
[6]- انظر : عبد الرحمن
بلعكيد، وثيقة البيع، م س، ص 348.
[7]- انظر : بلعكيد، وثيقة
البيع، م س، ص 349.