الرضائية والشكلية في التصرفات العقارية (الجزء الأول)
عندما ينشأ التصرف القانوني، فإما أن يوضع
في شكل معين يفرضه القانون؛ وغالبا ما يكون هذا الشكل هو الكتابة، وهي التي تعنينا
هنا، وإما أن يبقى التصرف على أصله من حيث عدم اشتراط شكل معين لإنشائه.
فإذا ما أنشئ هذا التصرف وفق شكلية الكتابة،
فقد تشترط فيه كركن في الانعقاد فلا يقبل التصرف إلا بتحققها؛ أو تشترط
فيه من أجل الإثبات، فيمتنع إثبات التصرف بوسيلة دون الكتابة، إلا في حالات خاصة
يحددها القانون.
ولما كانت شكلية الكتابة شرط صحة
وانعقاد في التصرفات العقارية خاصة، فإنه يرد على هذا الأمر إشكال يتعلق بما تضمنه
قانون الالتزامات والعقود (ق.ل.ع) من إمكانية الإثبات بواسطة الكتابة الإلكترونية،
حيث صرح بحجيتها في الإثبات دون أن يرد فيه ما يبين أن الكتابة الإلكترونية في التصرفات العقارية يقصد
بها الانعقاد لا الاثبات، وهو ما قد يطرح السؤال حول ما إذا كانت شكلية الكتابة
المتطلبة في التصرفات العقارية –مهما كانت الدعامة التي تضمنتها-[1] قد يراد بها مجرد
الإثبات على ما يراه بعض الباحثين والفقهاء بحسب ما سنورده.
بل إن مسألة التصرفات العقارية عرفت اختلافا
أعمق على مستوى القضاء خاصة، وهو يرجع إلى ما أقرته بعض الاجتهادات من عدم لزوم
الكتابة –أصلا- في البيوع العقارية، لا كشكلية انعقاد ولا كشكلية
إثبات.
وتأسيسا على ما ذكر فإننا سنتطرق للكتابة كشكلية في التصرفات العقارية (مطلب أول) ثم إلى موقف القضاء من مسألة الرضائية والشكلية في التصرفات العقارية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: الكتابة كشكلية في التصرفات العقارية
الظاهر من بعض مواد قانون الالتزامات
والعقود أن الأصل في الكتابة أنها متطلبة في الإثبات. ويرد على هذا الآصل استثناء
يتعلق بالتصرفات المنصبة على العقارات، فالكتابة في هذه إنما يقصد بها الانعقاد،
لكن هذا الاستثناء إنما هو وارد بخصوص التصرفات العقارية التي تكتب على دعامة
ورقية، فهذه الدعامة هي التي كانت موجودة ومتصورة إبان وضع ق.ل.ع.
لكن تطور مجال الإعلاميات وانتشار ظاهرة
الرقمنة وتحديث التشريعات لمواكبة هذه المستجدات كرس تساؤلا قديما مداره حول ما
إذا كانت شكلية الكتابة تقبل تصنيفها إلى شكلية إثبات وشكلية انعقاد، أم أنها لا
تأتي إلا للإثبات ولا يقصد بها الانعقاد أصلا. ذلك أن ق.ل.ع. بعد
استيعاب المستجدات الحديثة لم يرد فيه –بحسب الظاهر- ما يشير إلى أن الكتابة قد
تأتي –أحيانا- للانعقاد. وإنما استلزمت مواده –المتعلقة بهذا المجال- القول بأن
وظيفة الكتابة هي الإثبات لا غير.
ولبيان ذلك سنتناول الكتابة الورقية (أولا)
ثم الكتابة الإلكترونية (ثانيا) على أن يتم التركيز في ذلك على مجال التصرفات
العقارية.
أولا- الكتابة الورقية في التصرفات العقارية.
اشترط المشرع المغربي وجوب توفر
الكتابة في البيوع العقارية حسب الفصل 489 من ق.ل.ع الذي نص في فقرته الأولى على
ما يلي: "إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها
رهنا رسميا، وجب أن يجرى البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ".
ثم ما فتئ يزكي هذا الاتجاه في
التشريعات الخاصة بالعقارات، ويتعلق الأمر أساسا بالقانون 44.00 المتعلق ببيع
العقارات في طور الإنجاز والقانون 18.00 المتعلق بالملكية المشتركة، والقانون
51.00 المتعلق بالإيجار المفضي إلى التملك.
فالفصل 3-618 من ق.ل.ع المضاف إليه بمقتضى
القانون 44.00 ينص على ما يلي: "يجب أن يحرر عقد البيع الابتدائي للعقار في
طور الإنجاز إما في محرر رسمي أو بموجب عقد ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف مهني
ينتمي إلى مهنة قانونية منظمة يخول لها قانونها تحرير العقود وذلك تحت طائلة
البطلان.[2]
يحدد وزير العدل سنويا لائحة بأسماء
المهنيين المقبولين لتحرير هذه العقود.
يقيد باللائحة المحامون المقبولون
للترافع أمام محكمة النقض طبقا للفصل 34 من الظهير الشريف رقم162-93-1الصادر في 22
من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) المعتبر بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة
المحاماة...".[3]
والمادة 12 من القانون رقم 18.00 المتعلق
بالملكية المشتركة –حسبما عدل بالقانون رقم 106.12- والمادة 4 من القانون رقم
51.00 المتعلق بالإيجار المفضي إلى التملك تنصان على مقتضيات مشابهة
لما نص عليه الفصل 3-618 من ق.ل.ع.[4]
والملاحظ على الفصول والمواد السابقة أنها
تندرج من حيث الظاهر في إطار ما يعرف بشكلية الانعقاد وأن الفصل 3-618 من ق.ل.ع لم
يرتب جزاء البطلان على تخلف الشكلية، بينما رتبتها الفصول والمواد الأخرى المذكورة
أعلاه.
وتكرس الاتجاه نحو الشكلية أكثر بصدور مدونة
الحقوق العينية (م.ح.ع) التي نصت في مادتها الرابعة – المتممة بموجب القانون
69.16-على أنه: "يجب أن تحرر- تحت طائلة البطلان - جميع التصرفات المتعلقة
بنقل الملكية أو بإنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها
وكذا الوكالات الخاصة بها بموجب محرر رسمي، أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من
طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك.
يجب أن يتم توقيع العقد المحرر من طرف
المحامي والتأشير على جميع صفحاته من الأطراف ومن الجهة التي حررته.
تصحح إمضاءات الأطراف من لدن السلطات
المحلية المختصة ويتم التعريف بإمضاء المحامي المحرر للعقد من لدن رئيس كتابة
الضبط بالمحكمة الابتدائية التي يمارس بدائرتها".
والملاحظ على هذه المادة أنها كرست الاتجاه
نحو الشكلية بنصها على البطلان كجزاء لانعدامها.
وهذا الاتجاه نحو الشكلية ستؤكده مجموعة
أخرى من مواد م.ح.ع ، ومنها المادة 106 التي نصت على ما يلي: "تنعقد العمرى
بالإيجاب والقبول.
يجب تحت طائلة البطلان أن يبرم عقد العمرى
في محرر رسمي.
لا تشترط معاينة الحوز لصحة عقد
العمرى".
والمادة 131 التي نصت على أنه: "الزينة
حق عيني يخول صاحبه ملكية البناء الذي شيده على نفقته فوق أرض الغير.
ينشأ هذا الحق بالعقد مع تشييد البناء،
وينتقل بالشفعة أو بالإرث أو بالوصية.
لا يمكن ترتيب حق الزينة على حقوق مشاعة إلا
باتفاق جميع الشركاء".
والمادة 139 التي ورد فيها ما يلي: "ينشأ
حق الهواء والتعلية بالعقد".
والمادة 147 التي جاء فيها: "يشترط
لصحة الرهن الحيازي أن يبرم في محرر رسمي وأن يكون لمدة معينة".
والمادة 268 التي نصت على أنه: "يجب أن
يبرم عقد المغارسة في محرر رسمي، ويشترط لصحته أن يعين نوع الشجر المراد غرسه
ويبين حصة الغارس في الأرض وفي الشجر".
والمادة 274 التي جاء فيها ما يلي: "تنعقد
الهبة بالإيجاب والقبول.
يجب تحت طائلة البطلان أن يبرم عقد الهبة في
محرر رسمي".
والملاحظ على هذه المواد أن منها ما صرح
بذكر البطلان كجزاء لانعدام الشكلية ومنها ما لم يصرح، ومنها مواد اشترطت الرسمية
في الكتابة.
وقبل صدور مدونة الحقوق العينية ظهر اتجاه
نحو الشكلية في مدونة الأوقاف، لكنه لم يكن قويا وإلزاميا كما في النصوص السابقة.
وهكذا جاء في المادة 24 من مدونة الأوقاف ما
يلي: "يشترط لصحة الوقف شرطان:
- الإشهاد على الوقف..."
وفي المادة 25 ما يلي: "يتلقى العدول
الإشهاد على الوقف.
وإذا تعذر تلقي هذا الإشهاد، اكتفي استثناء
بوثيقة الوقف الموقعة من قبل الواقف مصادقا على صحة توقيعها طبقا
للقانون...".
فالمادة 24 اشترطت الإشهاد عند العدول–ولا
يتصور الإشهاد عندهم إلا بالكتابة- من أجل الصحة لا من أجل الإثبات، ثم ظلت–في
المادة 25-متمسكةباشتراط الكتابة، لكن في شكل إقرار عرفي بالوقف، وذلك في حال تعذر
الكتابة الرسمية عند العدول.
ولو عبر المشرع عن الإشهاد بالكتابة لقلنا
إن الأمر يتعلق دائما بشكلية انعقاد سواء كان العقد رسميا أم عرفيا، لكن لما عبر
بالإشهاد ووصفه بإمكانية التعذر فذلك يعد -في نظرنا- قرينة على أن الأمر يتعلق
بشكلية الإثبات لا بشكلية الانعقاد. بل حتى شكلية الإثبات سيأتي معنا بأن مدونة الأوقاف
قد تخلت عنها لصالح الرضائية.
وشبيه بهذه المسألة ما نهجه ق.ل.ع في إقراره
للتعاقد الإلكتروني على أنه شكلية إثبات؛ وهذا الأمر ينصرف حتى إلى التصرفات
العقارية المكتوبة إلكترونيا –على فرض إمكان ذلك مستقبلا- خاصة إذا ما كتبت بطريقة
إلكترونية رسمية؛ فالتصرفات العقارية التي لا يصلح لها ورقيا إلا شكلية الانعقاد
–بحسب الظاهر- يمكن أن ترد عليها –ما دام لا يوجد مانع من ذلك- كتابة إلكترونية
فتكون هذه الكتابة وسيلة إثبات لا وسيلة انعقاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - سواء كانت هذه
الدعامة ورقية أو إلكترونية.
[2]- يرجى النظر في المادة
الأولى من المرسوم رقم 2.03.853 الصادر في 18 من ربيع الآخر 1425 (7 يونيو 2004)،
ج.ر عدد 5222 بتاريخ 28 ربيع الآخر 1425 (17 يونيو 2004)، ص 2640؛ والتي تنص على
ما يلي: "تطبيقا لأحكام الفصلين 3-618 و16-618 أعلاه، يؤهل لتحرير عقود
البيع الابتدائية والنهائية الخاصة ببيع العقار في طور الإنجاز الموثقون، والعدول
والمحامون المقبولون للترافع أمام محكمة النقض... ".
[3]- نسخت أحكام الظهير
الشريف رقم162-93-1الصادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) المعتبر
بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة، بمقتضى القانون رقم 28.08 المتعلق
بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، الصادر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.08.101
بتاريخ 20 من شوال 1429 (20 أكتوبر 2008)، الجريدة الرسمية عدد 5680 بتاريخ 7 ذو
القعدة 1429 (6 نوفمبر 2008)، ص 4044.
ويقابل المادة 34 من
القانون السابق المادة 33 من القانون رقم 28.08 (الحالي).
[4] - تنص المادة 12من
القانون رقم 18.00–حسبما عدل بالقانون رقم 106.12- على ما يلبي: "يجب أن تحـرر
جميع التصرفـات المتعلقة بنقل الملكية المشتركة أو إنشاء حقوق
عينية عليها أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها بموجب محرر رسمي أو محرر
ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف مهني ينتمي إلى مهنة قانونية ومنظمة يخولها
قانونها تحرير العقود وذلك تحت طائلة البطلان.
يحدد وزير العدل
سنويا لائحة بأسماء المهنيين المقبولين لتحرير هذه العقود.
يقيد باللائحة المحامون
المقبولون للترافع أمام محكمة النقض طبق القانون المنظم لمهنة المحاماة.
يحدد نص تنظيمي شروط
تقييد باقي المهنيين المقبولين لتحرير هذه العقود.
يجب أن يتم توقيع العقد
والتأشير على جميع صفحاته من لدن الأطراف ومن الجهة التي حررته.
تصحح إمضاءات الأطراف من
لدن السلطات المختصة، ويتم التعريف بإمضاء المحامي المحرر للعقد من لدن رئيس كتابة
الضبط بالمحكمة الابتدائية التي يمارس بدائرتها في سجل خاص يحدد بمقتضى قرار
لوزير العدل.
تستثنى من أحكام هذه
المادة العقارات التابعة للملك الخاص للدولة.
تطبق مقتضيات هذه المادة،
مع مراعاة المقتضيات التي تنص على إلزامية تحرير بعض العقود في شكل رسمي".
وتنص المادة الرابعة من
القانون رقم 51.00 على ما يلبي:" يجب أن يحرر عقد الإيجار المفضي إلى
تملك العقار بموجب محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ، يتم تحريره من طرف مهني ينتمي
إلى مهنة قانونية ومنظمة يخولها قانونها تحرير العقود، وذلك تحت طائلة البطلان.
يحدد وزير العدل سنويا
لائحة بأسماء المهنيين المقبولين لتحرير هذه العقود.
يقيد باللائحة المحامون
المقبولون للترافع أمام محكمة النقض طبقا للفصل 34 من الظهير الشريف
رقم 1.93.162 الصادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) المعتبر بمثابة
قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة.
يحدد نص تنظيمي شروط
تقييد باقي المهنيين المقبولين لتحرير هذه العقود.
يجب أن يتم توقيع العقد
والتأشير على جميع صفحاته من الأطراف ومن الجهة التي حررته.
يتم تصحيح الإمضاءات
بالنسبة للعقود المحررة من طرف المحامي لدى رئيس كتابة الضبط للمحكمة الابتدائية
التي يمارس المحامي بدائرتها.
تحدد بنص تنظيمي تعريفة
إبرام هذا المحرر.
يحق للمكتري المتملك
الانتفاع من العقار بمجرد إبرام هذا العقد".