المسؤولية المدنية للعدول
إذا كان الالتزام ذا صبغة قانونية – غير
أخلاقية- أي أنه التزام يفرضه القانون ويوفر له الحماية بواسطة قواعده الموضوعية
والشكلية، فإن المسؤولية المترتبة عليه تعد مسؤولية قانونية، إذ تحكمها -بخلاف
المسؤولية الأدبية- نصوص تشريعية محددة ويترتب على ثبوتها دعوى قضائية تنظر أمام
المحاكم. وهذه الدعوى إما أن تكون دعوى ذات طابع زجري تترتب عن المسؤولية الجنائية، أو دعوى ذات طابع مدني تترتب عن المسؤولية المدنية.[1]
وسنقتصر في هذا المقال على دراسة المسؤولية
المدنية للعدول من حيث أنهم مصنفون ضمن مزاولي المهن الحرة (أولا)، مع الإدلاء
برأينا بخصوص هذه المسؤولية (ثانيا).
أولا- مسؤولية العدول ضمن مزاولي المهن الحرة.
لا توجد –حسب علمنا- نصوص تشريعية
خاصة تحدد مسؤولية العدول المدنية، وإنما هناك نصوص عامة مدونة في قانون
الالتزامات والعقود (ق.ل.ع) تتعلق بالمسؤولية المدنية سواء كانت تقصيرية[2] أو عقدية.[3]
ولا توجد أيضا اجتهادات قضائية كافية تبين
طبيعة المسؤولية المدنية للعدول وما إن كانت مسؤولية تقصيرية أم مسؤولية عقدية.
وغالبا ما قد تنشأ المسؤولية المدنية للعدول
عن المتابعة الجنائية التي تفتح بمناسبة دعوى الزور، فتتم مطالبة العدول بتعويض
الطرف المتضرر في إطار ما يعرف بالدعوى المدنية التابعة التي تبت فيها غرفة
الجنايات. ومعلوم أن المسؤولية التي تكون من هذا النوع هي مسؤولية تقصيرية لأنها
ناتجة عن جريمة، كما أن الضرر فيها يصيب –غالبا- شخصا من غير أطراف العقد.
ولقد نشأ خلاف دار ولا يزال دائرا حول تكييف
طبيعة المسؤولية المدنية لممارسي المهن الحرة، إن كانت تقصيرية أم عقدية.[4] وقد ارتبط هذا الاختلاف
بطبيعة الالتزامات الأصلية الملقاة على عاتق هؤلاء، إن كانت التزامات ببذل عناية
أم التزامات بتحقيق نتيجة؛ ذلك أن الالتزام الأصلي ببذل عناية ينشأ عنه في الغالب
مسؤولية تقصيرية، والالتزام بتحقيق نتيجة ينشأ عنه مسؤولية عقدية .
كما أن هذا الاختلاف ارتبط أيضا بمسألة
علاقة الممارس المهني الحر بزبونه أو بموكله، ذلك أن الخطأ الذي يرتكب في إطار هذه
العلاقة ينبغي أن يحتسب خطأ عقديا، بينما الخطأ الذي يتم خارج إطار تلك العلاقة أو
يضر بأحد الأغيار يعد خطأ تقصيريا.[5]
وينبني على هذا التمييز أن التعويض عن الضرر
في إطار المسؤولية التقصيرية يكون أكثر قيمة من ذلك الذي يترتب في إطار المسؤولية
العقدية، ذلك أن التعويض التقصيري يغطي جميع الأضرار التي قد تصيب زبون الممارس
الحر، بينما لا يغطي التعويض العقدي إلا الضرر المتوقع.
ولعل ذلك يعد أكثر الأسباب التي تجعل شركات
التأمين في المغرب تعرض عن تبني مسؤولية أخطاء الممارسين للمهن الحرة – خاصة مهنة
العدول-[6] فهي تعتبر أن مسؤوليتهم
تقصيرية تؤدي إلى تعويضات كبيرة؛ وحتى في الدول التي تتبنى هذه المسؤولية – مثل
فرنسا- فإن شركات التأمين غالبا ما تحصر الضمان في عقد التأمين على الأخطاء
المهنية للمنخرط فحسب، وهو ما قد يساعدها في بعض الأحيان على التقليص من نطاق
التعويض المحكوم به.[7]
ثانيا- رأينا بخصوص طبيعة المسؤولية المدنية للعدول.
قد تكيف المسؤولية
المدنية للعدول بأنها مسؤولية تقصيرية في مواجهة زبائنهم ، إن نظرنا
إليها من جانب أنهم ليسوا ملتزمين إلا ببذل عناية، سواء تعلق الأمر بالالتزام
الأصلي المتمثل في تحرير العقد وإنجازه، أو تعلق بالالتزامات التبعية كإرشاد
الزبون وإسداء النصح إليه والحصول على رضاه عند الإقدام على كل أمر هام يخصه، أو
القيام بدلا عنه بإجراءات التسجيل وأداء الضرائب ومعاينة الرسم العقاري وغيرها؛ إذ
أن كل هذه الالتزامات سواء كانت أصلية أو تبعية يتطلب الإيفاء بها تدخل أطراف أخرى
كالقاضي المكلف بالتوثيق والإدارات المعنية، فيصعب تبعا لذلك أن يضمن العدل تحقق
النتيجة.
أما إذا نظرنا إلى الأمر من جانب أن الخطأ
المهني لا يكون إلا عقديا، باعتبار العلاقة التعاقدية – الصريحة أو الضمنية- التي
تربط بين ممارسي المهن الحرة وبين زبائنهم، فإن مسؤولية العدول ينبغي أن تكيف
بأنها عقدية في مواجهة زبائنهم .
ولذلك ندعو إلى إقرار المسؤولية العقدية في
حق العدول، لكن على أساس ألا يعتبر من الأخطاء إلا ما كان جسيما. ذلك أن بذل العدل
للعناية المطلوبة يفرض أن تترك له مساحة من الحرية، حتى لا يبقى تحت رهبة الوقوع
في الأخطاء العادية.
وإن قيل بأن الزبون قد يتضرر من خطأ العدل
أكثر مما يتضرر الأغيار، لأنه يدفع الأجرة بينما هؤلاء يستفيدون دون أن يدفعوا
شيئا، فوجب لذلك أن يحصل الزبون على تعويض في إطار المسؤولية التقصيرية – مثل
الأغيار- لا في إطار المسؤولية العقدية؛ فيتم الجواب على ذلك – بحسب رأينا- بأن
يقال إن ما يعاقب به العدل زجريا وما يغرمه للأغيار مدنيا إنما يترتب –عادة- على
العقد الذي كتبه العدل لفائدة زبونه، ثم إن الأجرة التي يأخذها العدل من
المتعاقدين تخضع لتعريفة محددة ، وفي الغالب لا يتقاضى العدول هذه الأجرة كاملة،
كما أن العدلين لا يقتسمان الأجرة بالمرة _بحسب ما جرت عليه العادة في أغلب
المحاكم_، بل ينفرد بها أحدهما، أو يقتسمانها بطريقة غير متساوية.
هذا بالإضافة إلى أن عمل العدول يغلب عليه
الشهادة أكثر مما يغلب عليه الكتابة، وأن الوثيقة المنجزة عند العدول تحتاج إلى
تدخل جهات أخرى حتى تصبح وثيقة تامة، ففي هذا دلالة على أن العدول يكونون في
علاقتهم بزبائنهم على طرفين متساويين أو يكون العدول أقل رتبة من موقع زبائنهم .
كما أن مصير المتعاقدين لا يكون بيد العدول ، فالشخص الذي يأتي عندهم لا يكون
متهما ينتظر براءته، ولا يكون مشرفا على الموت ينتظر علاجه.
بينما في أغلب المهن الحرة الأخرى نجد أن
العلاقة بين ممارسيها وزبائنهم يطبعها عدم التكافؤ بين الطرفين، إذ يكون الممارس
المهني في وضع اقتصادي واجتماعي أقوى –في الغالب- من الوضع الذي يكون عليه الزبون
الذي يكون هو الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية.[8]
فيجب في هذه الحالة حماية الطرف
الضعيف، ومن وسائل هذه الحماية تقرير مسؤولية تقصيرية في حق الممارس المهني الحر
الذي ينبغي أن يكون غرمه في حجم غنمه. وتظهر قوة وضعية المهني –غير العدل- في
الحصانة التي قد يتمتع بها، وفي الأتعاب التي يتقاضاها ويفرضها كما يشاء، وفي
الأدب والاحترام الذي يظهر على الموكلين وهم يتعاملون معه؛ ولا يحظى العدول إلا
بشيء يسير من ذلك، أو لا يحظون به مطلقا.[9]
ومع ذلك فهؤلاء المهنيون –غير العدول- تتم
معاملتهم في إطار قواعد مسؤولية عقدية مخففة، لأنه لا تتم محاسبتهم إلا على
الأخطاء الجسيمة، كما يتم الاعتذار لهم دائما بأنهم يبذلون عناية وهم غير ملتزمين
بتحقيق النتيجة، فلا أقل من أن يحظى العدول بنفس المعاملة.
بل إننا نذهب إلى القول بأنه من الصعب أن
تطال المسؤولية المدنية العدول في مواجهة زبنائهم –لا في مواجهة الأغيار-، وذلك
لأنهم يشهدون لفائدة هؤلاء الزبناء ولا يشهدون ضدهم، كما أن المتعاقد تقرأ عليه
الشهادة ويوقع عليها، فالعدل يظل محايدا من هذه الجهة فليس مصير الزبون بيده؛
ويضاف إلى ذلك أن الزبون إن تعاقد مع عدلين فهو في الغالب يتعاقد مع أحدهما فقط
لأنه هو الذي ينفرد _عمليا_ بكل الأجرة أو الجزء الأكبر منها، فما فائدة تحميل
رفيقه الوزر معه؟
وعلاوة على ما ذكر فإن الأخطاء المهنية
الجسيمة غير متصورة في عمل العدول –من حيث المبدأ-، لأن من المفروض أن رقابة قاضي
التوثيق تنصرف إلى تفادي هذه الأخطاء.
ولذلك، فإننا نرى أنه إذا ما أقرت المسؤولية
المدنية في حق العدول – لاسيما في مواجهة زبنائهم- فلا بد أن يكون لهم سبيل إلى
تغطية مبلغ التعويض من الدولة ما دام أنهم يؤدون خدمة تتصل بالنظام العام. ويمكن
أن يكون ذلك في شكل اقتطاع من رسوم التسجيل المفروضة على الوثائق العدلية، لأن
العدول هم الذين كانوا سببا في أن يدفع المتعاقدون هذه الرسوم للدولة.
ومهما يكن فإن المسؤولية المدنية التي تترتب
في مواجهة العدول لا تتعلق – غالبا- بالعلاقة بين العدل والزبون، بل تكون مسؤولية
تقصيرية في إطار الدعوى المدنية التابعة للدعوى الجنائية، وذلك في مواجهة الأغيار
لا في مواجهة الزبائن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - وقد تكون الدعوى ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين
المسؤوليتين معا .
[2] - الفصل 77 وما يليه من قانون الالتزامات والعقود
( ق.ل.ع).
[3] - الفصل 230 وما
يليه من ق.ل.ع.
[4] - تمخض عن هذا
الخلاف فريقان فقهيان أحدهما يمثل أنصار وحدة المسؤولية المدنية، وثانيهما يمثل
أنصار ازدواجية المسؤولية المدنية، كما تمخض عنه جدل فقهي آخر كان له بدوره أثر
عميق وجد واضح على أحكام القضاء، ويتعلق الأمر بمدى إمكانية الخيرة (الاختيار) بين
الاستفادة أو عدم الاستفادة من أحكام المسؤوليتين معا، وفي ذات الوقت.
- محمد الكشبور، المهن القانونية الحرة، انطباعات حول المسؤولية
والتأمين، مساهمة في ندوة "المهن القانونية الحرة" المنعقدة بكلية
الحقوق بالدار البيضاء يومي 23 و24 نونبر 1990، منشورة في: المجلة المغربية لقانون
واقتصاد التنمية، عدد 25 سنة 1991، ص 123 وما يليها، صفحة الاقتباس 143.
[5] - انظر : - محمد
الكشبور، المهن القانونية الحرة ، م.س ، ص 143. هامش 36.
[6] - التوجه التشريعي
يرمي إلى إلزام العدول بالتأمين على المسؤولية المدنية؛ غير أنه
من النادر أن تترتب مسؤولية العدول المدنية في مواجهة موكليهم؛ أما الأغيار فلا
يحدث لهم الضرر كنتيجة مباشرة للرسوم العدلية، لأنهم لا يذكرون كمشهود عليهم –أو
ضدهم- في الوثائق العدلية، كما أن العقود نسبية لا تتعدى أطرافها. وعليه فقد يطال
الحيف العدول إذا ما تم إقرار واجب مالي دوري مرتفع القيمة يؤدونه لشركات التأمين.
[7] - الكشبور، م س ، ص 146-147.
[8] - يقول عمر عزيمان
في مسألة عدم التكافؤ بين ممارسي المهن الحرة وزبائنهم :
« …Cette inégalité reflète ,
reproduit et accentue une inégalité de fait qui trouve sa source dans des
facteurs divers : le savoir et la compétence du professionnel , son
appartenance de classe , sa proximité du pouvoir politique , son influence ,
son autorité , son prestige , le tout aggravé par l’écart socioculturel ,
l’état psychologique du client , sans même parler de la distance qu’impose le
décor , de l’appréhension que suscite la blouse blanche et la robe noir, le hiératisme
inhérent aux titres prestigieux de « docteur » ou de
« maitre »… ».
- Omar AZZIMAN - La
professions libérale au Maroc – thèse - Nice – France - soutenue en 1979
édition de la faculté des sciences juridiques - économiques et sociales de
rabat – 1980 – p 323.
[9] - مع أن اتخاذ العدل لمحل عمله داخل شقة من عمارة
قد يصنع له هيبة ووجاهة واعتبارا، إلا أن بعض العدول قد يشتغل في دكاكين ، ومنهم
من ينصب خياما في الأسواق الأسبوعية
بالبوادي، وهذا عامل كفيل بأن يجعل العدول في مرتبة مساوية لمرتبة الأطراف. بل إن بعض
العدول – أحيانا- إذا أحسوا بهيبة ووجاهة الأطراف فإنهم لا يجرؤون على تقاضي
أجرتهم وفق التعريفة . وبالنسبة للجلباب الذي قد يلبسه العدول فهو قد يجعلهم
عرضة للتوقير وقد يجعلهم عرضة للتحقير، وكذلك الخط اليدوي فالبعض يطالب به –من باب
الجمالية- والبعض يتهكم منه، فلا يوجد شيء ثابت معياري هو الذي يصنع الهيبة للعدول
ويجعلهم فوق مستوى الأطراف .