الصبغة الرسمية للوثائق العدلية (الجزء الخامس)
ثانيا _ الأمور المختلف في مدى شمول الرسمية لها.
وقع خلاف بين الفقهاء في مسألتين حول مدى شمولهما
برسمية الوثيقة العدلية أم عدم شمولهما، وهاتان المسألتان هما مسألة تقييد المشهود
له، ومسألة الأتمية التي ترد في وثائق العدول؛ وحيث أن هذه المسألة لا يزال الخلاف
محتدما فيها إلى الآن من قبل القضاة وفقهاء القانون المعاصرين، فإننا سنفرد لها
فقرة مطولة بعد بيان ما يتعلق بالمسألة الأولى.
1- ما يؤتى به للتقييد .
قال الرهوني: "من جملة ما لا يثبت بثبوت
الشهادة... ما سيق وأتي به للتقييد كقولك : وكل القاسم بن محمد، فلا يثبت نسب
القاسم إلى محمد عند الإمام مالك رضي الله عنه ، وأثبت ذلك الإمام الشافعي رضي
الله عنه...".[1]
وقد استحسن ابن عرفة – من المالكية- قول الشافعي القاضي
بشمول الإشهاد لمقصود العقد ولغيره من التقييدات، ولو لم يصرح الشاهد بمعرفته
وشهادته لتلك التقييدات؛[2] وذلك لأن
تلك الشهادة متعدية إلى إثبات النسب بدلالة التضمن، وهي شهادة بالتوكيل بالأصالة
أو المطابقة.
كما احتج الشافعية في قولهم بأن الإشهاد يشمل ما يؤتى به
للتقييد، بحديث كتابة صلح الحديبية[3] وفيه
"فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله (صلى الله عليه
وسلم)، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن
عبد الله، قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي: أمح رسول
الله، قال: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) الكتاب،
فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله...".
وموضع الاستدلال من هذا الحديث أن عرب قريش وهم من أفصح
العرب وأعلم الناس باللسان العربي لو لم يفهموا ثبوت الرسالة من قوله: محمد رسول
الله لم يمتنعوا من كتابة رسول الله، فالعقد وإن كان للصلح بين المسلمين وكفار
قريش في زيارة مكة، وأن يرد المسلمون من يأتي عندهم من أقارب الكفار ولو أسلموا؛
فإن عرب قريش لم يقصروا دلالة العقد على ما سيق له من الصلح بل جعلوه يشمل حتى ما
يؤتى به لتقييد الأسماء.
لكن المالكية يردون على ذلك بأنهم يسلمون بما ورد في
الحديث، ولكنهم احتاطوا في الشهادة فقصروها على ما هو مقصود دون ما كان تبعا.
كما أن الإمام مالك رضي الله عنه، لا ينكر دلالة التضمن،
فهو يقول بها، ولكنه يرى وجوب التحري في موضوع الشهادة وشدة الاحتياط حتى لا يعمل
بها إلا فيما تتعلق به قصدا لقوله تعالى : "وما شهدنا إلا بما علمنا".[4]
والتضمن قد يكون الشاهد فيه غير عالم به لعدم قصده، وهذا
ما يؤيد قول الإمام مالك.[5]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر : محمد القدوري ، موسوعة الفقه
، م س ، ص 415.
[2]- وتطبيقا لهذا اعتبر ابن عرفة
امتناع الشيخ ابن سلامة أحد علماء تونس من وضع شهادته على عقد نكاح ولد ابن عبد
السلام التونسي صوابا، حيث جاء في الرسم: تزوج العالم ابن مفتي افريقية، ولم يكن ابن
عبد السلام يومئذ مفتيها، فلم يثبت للشاهد ابن سلامة علم ولد ابن عبد السلام ولا
إفتاء أبيه لإفريقية. وأعلم بذلك ابن عبد السلام وهو أحد الشراح المعتمدين لمختصر
ابن الحاجب، وأحد الفقهاء المشهورين، فقال ردا على ابن سلامة : إن محل الإشهاد هو
النكاح المنعقد بين الزوج وولي الزوجة وما يتوقف عليه ذلك من الشروط فقط، وما عدا
ذلك ليس مشهودا به ، وإنما هو بذكر المشهد ، ويكتبه الشاهد إرضاء له على أنه مجرد
حكاية.
- انظر :- الصنهاجي ، مواهب
الخلاق ،م س ، ج 2، ص226.
[3]- الحديث رواه البخاري في صحيحه عن
البراء بن عازب –رضي الله عنه- في باب الصلح (2553) ، ومروي أيضا في : صحيح
مسلم الجهاد والسير (1783) ، سنن أبي داود المناسك (1832) ، مسند أحمد بن حنبل
(4/298)، سنن الدارمي السير (2507).
[4]- سورة يوسف ، من الآية 81.
[5]- انظر ، العسري ، شهادة الشهود ، م س
، ج 1 ، ص 348-349.