مقتضيات تحرير الشهادة العدلية (الجزء الثالث)
المطلب الثالث: الحفاظ على بنية الوثيقة المحررة وبيانات الشهادة المتلقاة
جاء في الفقرة الأولى من الفصل 418 من ق.ل.ع
ما يلي: "الورقة الرسمية هي التي يتلقاها الموظفون العموميون الذين لهم
صلاحية التوثيق في مكان تحرير العقد، وذلك في الشكل الذي يحدده القانون...".
ومؤدى هذا أنه يتوجب على الورقة حتى تصير
رسمية أن تكون مستكملة لكل البيانات والأشكال التي أوجب القانون توافرها في
أمثالها، حيث قرر القانون لكل نوع من الأوراق الرسمية أوضاعا وقواعد يلزمها الموظف
العام المختص في كتابة الورقة الرسمية.[1]
وبالرجوع إلى النصوص المتعلقة بضوابط
التحرير كما هي مسطرة بقانون خطة العدالة والمرسوم التطبيقي له، يتبين لنا أن
المشرع فرض ضوابط تتعلق ببنية الوثيقة العدلية (أولا)، وأخرى تتعلق بالحفاظ –عند
التحرير- على البيانات الإلزامية كما وردت بالشهادة المتلقاة (ثانيا). فعندنا
مسألتان نتولى بيانهما فيما يأتي:
أولا- الحفاظ على بنية الوثيقة العدلية.
تأتي بنية الوثيقة العدلية مختصرة
ومترابطة ولا انقطاع بين بنودها، وهو ما تؤكده المادة 33 من قانون الخطة والفقرة
الأخيرة من المادة 27 من المرسوم التطبيقي.[2] إذ تفرض المادتان
المذكورتان مقتضيات توجب الحفاظ على بنية الوثيقة العدلية المعروفة.
وهذه البنية مختلفة عن بنية الوثيقة المحررة
من قبل الموثقين (العصريين) التي تتميز بأنها وثيقة تتكون من صفحات
متعددة وتضم بنودا أو فصولا مرقمة أو معنونة أو هما معا، وتضم علامات الترقيم
والانقطاعات والفراغات بين فصول الوثيقة.
وقد يدعو البعض العدول إلى الاستغناء
عن البنية التقليدية للوثيقة[3] والكتابة وفق
البنية الحديثة، وقد يذكر أن البنية القديمة تعد سببا للإعراض عن التوثيق العدلي
خاصة من لدن الشركات والمؤسسات ورجال الأعمال.
ونحن لا نعترض على التجديد والإبداع في
الوثيقة العدلية واتباع الأساليب المعاصرة في إنشائها وصياغتها، لكننا لا نفهم هذا
الانبهار المبالغ فيه ببنية الوثيقة العصرية دون تمحيص ودراسة متأنية.
ذلك أن الوثيقة العصرية تأتي طويلة ومتعددة
الفصول لأن أكثرها يتضمن معلومات هي عبارة عن قواعد آمرة تطبق بقوة القانون ولو لم
ينص عليها الأطراف، أو قواعد عامة تطبق ولو بدون نص. ويأتي في الوثيقة العصرية
عادة فصل أو بند يتضمن التذكير بالقوانين. فكل ذلك –وإن أبهر العين- إنما يندرج
بحسب علماء التوثيق في باب الحشو والتلفيف.
إذ الوثيقة عند الفقهاء الموثقين ليست مجالا
للتذكير بالقوانين وحشوها بالأمور الفقهية، بل مجالها هو ذكر البيانات المتعلقة
بالتوثيق،[4] أي الأركان والشروط التي
اتفق عليها الأطراف، وما سوى ذلك يشتغل فيه القانون والقضاء دون حاجة للنص عليه
إلا إذا كان القانون نفسه هو الذي يلزم بهذا النص.
ثم إن تقسيم الوثيقة إلى بنود متفرقة قد
يجعل قارئها يركز مباشرة على قراءة البند الذي يهمه، ويغفل قراءة ما تبقى، و هو
بذلك قد يغفل قراءة شرط أو مقتضى يرد في ثنايا بعض البنود، وإذا ما كان هذا القارئ
عدلا أو موثقا أو محاميا أو قاضيا أو محافظا عقاريا أو موظفا بإدارة التسجيل أو
موظفا آخر ممن سيعتمدون على الوثيقة العصرية للتأسيس عليها في إنجاز الوثائق
الرسمية التي يتكلف بها هؤلاء الموظفون، كل في مجال تخصصه، فقد يترتب على ذلك عدم
تحر وضياع لحقوق الأطراف.
بينما تأتي الوثيقة العدلية مسترسلة لأنها
تحيل على معنى العقدة والوثاق والرباط، فبعضها يشد بعضا، وأولها آخذ بزمام وسطها
ووسطها آخذ بزمام آخرها، فكأن في ذلك إشارة إلى وجوب قراءتها من أولها إلى آخرها.
فالذي سيقرأها – وهي بهذه الصفة من الاختصار والتماسك- سيكون من اليسير عليه أن
يطلع على جميع مضمونها، وإن بنى عليها في تأسيس وثيقة أخرى، فلن يحصل بسبب هذا
البناء غمط لحقوق الأطراف. والسبب في ذلك الاختصار والتماسك أنها
وثيقة تقتصر على التوثيق ولا تتعداه إلى الفقه والتذكير بالقوانين إلا
في حالة الضرورة والإيضاح لما خفي.
والذي يظهر ذلك الترابط في الوثيقة العدلية
خلوها من علامات الترقيم وتأخير الفاعل فيها إلى نهايتها، فالعبارات التي تأتي في
آخرها المضمنة في ما يلي: "شهد به عليهم وهم بأتمه وعرف بهم بما ذكر وحرر
بتاريخه عبد ربه تعالى..." تتضمن أفعالا كلها مبنية على المعلوم لا على
المجهول، وعليه فإن "عبد ربه تعالى" يعد فاعلا متأخرا، ولا يعد مبتدأ
متقدما إلا إذا سبقته نقطة. وتأخير الفاعل الهدف منه رعاية هذا التماسك والترابط
الذي تتميز به الوثيقة العدلية.
إلا أن هذه الأمور أخذت تتغير نسبيا
بفعل التطور والأعراف المستحدثة، فأصبحت الوثيقة العدلية تتضمن علامات للترقيم
وفراغا بين مضمونها وتوقيع العدلين؛ وكل ذلك جائز في نظرنا ما لم يمس بوحدة
الوثيقة وتماسكها واختصارها، إذ يستحسن وضع بعض علامات الترقيم كوضع النقطتين بعد
طليعة الوثيقة للتمييز بين هذه الطليعة وما بعدها من مضمون.
ونظرا لضغط العولمة المتواصل وللمنافسة
الشرسة التي تشهدها الوثائق العدلية، فإننا نرى أنه يمكن تبني حل وسط يقضي بكتابة
الوثيقة العدلية وفق البنية التقليدية الخاضعة للتطورات المعاصرة في قضايا الأحوال
الشخصية؛[5] وذلك لأن هذه
القضايا لا تتضمن في الغالب إلا بنودا قليلة، وبكتابة الوثيقة وفق البنية العصرية
في قضايا الأحوال العينية[6] لأنها غالبا ما
تتضمن بنودا كثيرة. لكن ذلك مشروط بأن يتم تخليصها من الأمور الفقهية والقواعد
الآمرة أو العامة إلا فيما دعت إليه الضرورة أو نص عليه المشرع نفسه.[7]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - انظر: سعيد كوكبي،
الإثبات وسلطة القاضي في الميدان المدني، دار القلم، الرباط، طبعة 2005، ص 46.
[2] - تنص الفقرة
الأخيرة من المادة 27 من المرسوم التطبيقي لخطة العدالة على ما يلي: "تحرر
الشهادة بأكملها دون انقطاع في ورق جيد بكيفية واضحة مخطوطة باليد بمداد أسود غير
قابل للمحو أو مطبوعة بالحاسوب؛ ويوقعها العدلان اللذان قاما بتلقيها".
[3] - نحن نعترض على
عبارة "التقليدية" ونفضل أن تحل محلها عبارة "الأصيلة".
[4] -
ولذلك ورد في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب التدريب على تحرير الوثائق
العدلية أن شرح الصنهاجي لوثائق بناني اشتمل على مجموعة من النقط من
بينها:
"...9- بيان ما هو
من فقه الأحكام (مما اشتملت عليه وثائق بناني) الذي يدرج في
متن الوثيقة، فالأولى حذفه منها....
11- بيان ما هو من قبيل
تلفيفات الموثق المدرج في الوثيقة على سنن المتقدمين".
[5] - الأحوال الشخصية
تشمل مدونة الأسرة ونظام الحالة المدنية.
[6] - الأحوال العينية
تشمل الالتزامات المدنية والتجارية أو ما يسمى بالحقوق الشخصية، وتشمل الحقوق
العينية.
[7] - ومن ضمن ما نص
عليه المشرع بخصوص تضمين بعض المقتضيات القانونية بالوثيقة ما ورد في الفقرة
الثانية من المادة 11من قانون 18.00 التي جاء ورد ضمن أحكامها ما يلي: "ويشار
في عقد الشراء إلى أن المشتري قد اطلع على مقتضيات نظام الملكية المشتركة والوثائق
المرفقة به".