الصبغة الرسمية للوثائق العدلية (الجزء الأول)
تعد الوثائق العدلية بعد الخطاب عليها وثائق
رسمية، غير أن طبيعة الصبغة الرسمية للوثائق العدلية ليست محل اتفاق بين
الباحثين، وذلك يرجع إلى اختلاف الأساس الذي يستند إليه كل واحد منهم من جهة (مطلب
أول)؛ وإلى عدم الاتفاق على البيانات والمشتملات التي تكتسب الرسمية والحجية
الإثباتية في الوثائق العدلية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: طبيعة الرسمية في الوثائق العدلية
اختلف في الأساس الذي يتم الانطلاق منه
لإضفاء الصفة الرسمية على الشهادات العدلية، بين من يقول إنه يستند إلى الخطاب
عليها من قبل قاضي التوثيق، وبين من يرى أن الأساس فيه هو مواد قانون الالتزامات
والعقود (ق.ل.ع) التي تعرف الورقة الرسمية وتصف مدى حجيتها.
وعليه فسنعرف –هنا- الورقة الرسمية ونبين
مجالاتها في التشريع المغربي (أولا) قبل أن نخلص إلى بيان الأساس الذي تستند إليه
الوثائق العدلية في حيازة الصفة الرسمية(ثانيا).
أولا- الورقة الرسمية ومجالاتها في التشريع المغربي.
في التصرفات العقارية
خاصة، تفرض بعض التشريعات–كالتشريع المصري- الرسمية في بعض العقود خاصة تلك
المتعلقة بالتبرعات؛ وذلك منذ أمد بعيد.
وقد أخذ المشرع المغربي–حديثا-يتجه
نحو فرض الرسمية في بعض التصرفات العقارية، ومنها التبرعات خاصة؛ إلا أنه جعل
كتابتها مشتركة بين الموثقين والعدول، غير أن مجال الرسمية آخذ في التراجع بحكم
تخويل بعض المهنيين كتابة التصرفات العقارية كتابة عرفية.
وقبل أن نطلع على مجالات التوثيق الرسمي في
التشريع المغربي وما يحيط بها من إشكالات نرى لزاما أن نذكر ما يتعلق
بمفهوم الورقة الرسمية وحجيتها.
1- مفهوم وحجية الورقة الرسمية.
عرف الفصل 418 من ق.ل.ع
الورقة الرسمية حيث جاء فيه: "الورقة الرسمية هي التي يتلقاها الموظفون
العموميون الذين لهم صلاحية التوثيق في مكان تحرير العقد، وذلك في الشكل الذي
يحدده القانون.
وتكون رسمية أيضا:
1 - الأوراق المخاطب عليها من القضاة في
محاكمهم؛
2 - الأحكام الصادرة من المحاكم المغربية
والأجنبية، بمعنى أن هذه الأحكام يمكنها حتى قبل صيرورتها واجبة التنفيذ أن تكون
حجة على الوقائع التي تثبتها".
وعرفها بعض الفقه[1] بأنها "كل
ورقة صادرة من موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عمومية مختص بتحريرها من حيث نوعها ومن
حيث مكان التحرير حسب القواعد المقررة قانونا يثبت فيها ما تلقاه من
ذوي الشأن أو ما تم على يديه".
ويتضح من هذين النصين أن وصف الورقة
بالرسمية هو نتيجة لتحريرها بمعرفة شخص له صفة رسمية أي موظف عام أو شخص له صلاحية
التوثيق.[2]
وحتى تكون الورقة الرسمية كذلك ينبغي أن
تجتمع فيها مجموعة من الشروط؛ وهي أن تكون صادرة من موظف عمومي؛[3] وأن يكون لهذا الموظف
صلاحية التوثيق، بحيث يكون مختصا مكانيا ونوعيا بخصوص الورقة التي يحررها؛ وأن
تكون الورقة في الشكل الذي يحدده القانون بأن تشتمل على جميع البيانات والأوضاع
التي أوجب القانون توفرها فيها.
وإذا تخلف أي شرط من هذه الشروط، أدى ذلك
إلى بطلان الورقة على صفتها الرسمية وأصبحت لها قيمة الورقة العرفية.[4]
وإذا ما اجتمعت الشروط واعتبرت الورقة رسمية
فإنها تكون حجة قاطعة حتى على الغير؛ جاء في الفصل 419 ق.ل.ع ما يلي: "الورقة
الرسمية حجة قاطعة، حتى على الغير في الوقائع والاتفاقات التي يشهد الموظف العمومي
الذي حررها بحصولها في محضره وذلك إلى أن يطعن فيها بالزور.
إلا أنه إذا وقع الطعن في الورقة بسبب إكراه
أو احتيال أو تدليس أو صورية أو خطأ مادي فإنه يمكن إثبات ذلك بواسطة الشهود وحتى
بواسطة القرائن القوية المنضبطة المتلائمة دون احتياج إلى القيام بدعوى الزور.
ويمكن أن يقوم بالإثبات بهذه الكيفية كل من
الطرفين أو الغير الذي له مصلحة مشروعة".
على أساس الفصلين السابقين يتبين أن
المحررات الصادرة من العدول أو الموثقين بطريقة سليمة وفق الشكل المطلوب قانونا،
تثبت لها الصفة الرسمية. وبذلك فهي حجة قاطعة في الإثبات، دون الالتفات إلى إقرار
الطرف الملتزم بنسبتها إليه، ولا يمكن الطعن في توقيعها أو مضمونها أو شكلها إلا
عن طريق ادعاء الزور.[5]
2- مجالات التوثيق الرسمي في التشريع المغربي.
في المغرب، ينعقد الاختصاص في تحرير
الوثائق الرسمية للعدول والموثقين، غير أن بعض الوثائق الرسمية ينحصر
فيها الاختصاص مبدئيا في العدول وحدهم، وهي بحكم المقتضيات التشريعية الجديدة،
أصبحت منحصرة في الوثائق المذكورة بمدونة الأسرة وبمدونة الأوقاف،[6] إلا ما تم استثناؤه
صراحة بنصوص هاتين المدونتين[7].
كما أن بعض التصرفات تقتصر كتابتها على
الموثقين، ومن بينها كتابة عقود السكن الاجتماعي حسبما ورد بالمادة 93 من المدونة
العامة للضرائب.
أما مدونة الحقوق العينية (م.ح.ع)، فقد وردت
فيها بعض النصوص التي تشترط الرسمية،[8] ولم يرد فيها ما يحصر
تلقي بعض التصرفات في الإشهاد العدلي.
بل إن الوثيقة الرسمية –سواء أنجزت عند
العدول أو الموثقين- آخذة في الانحصار بفعل الموقف الوسط الذي اتخذه المشرع
المغربي الذي يرمي من خلاله إلى حصر التوثيق العرفي في بعض المهنيين؛ ذلك أن
الشكوى من العقود العرفية التي يكتبها الأطراف بأنفسهم أو بواسطة الكتاب العموميين،
جعلت المشرع يسند كتابة التصرفات في مجال الحقوق العينية إلى العدول والموثقين
والمحامين المقبولين لدى محكمة النقض، وعليه فلا يمكن المجازفة بالقول إن مدونة
الحقوق العينية تميل إلى الرسمية في كتابة التصرفات العقارية.
ومما يدل على الرسمية تسير نحو التقلص أن
الرهن الرسمي الاتفاقي لم تعد تشترط فيه حتى الكتابة العرفية من قبل المهنيين، إذ
يمكن كتابته بطريقة عرفية عادية.[9]
كما اشترطت م.ح.ع الرسمية في بعض التصرفات
دون أن تقرن ذلك بالبطلان إذا ما تخلفت هذه الرسمية.[10]
ومن مجالات تراجع الرسمية أنه من
المتوقع –كما ذكرنا في مقالة سابقة- أن يصدر قانون يجعل فئات وكلاء
الأعمال من المهنيين الذين لهم حق الكتابة العرفية في التصرفات العقارية فيما لا
تشترط فيه الرسمية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- أحمد نشأت، رسالة
الإثبات، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة السابعة، 1972، ج 1 ص182.
[2]- إدريس العلوي
العبدلاوي، وسائل الإثبات في التشريع المدني المغربي، مطبعة النـجاح الجديدة، الدار
البيضاء، طبعة 1990 ، ص: 67.
[3]- ينص الفصل 224 من
مجموعة القانون الجنائي على أنه: "يعد موظفا عموميا، في تطبيق أحكام التشريع
الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه، في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة
و لو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو
الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية، أو مصلحة ذات نفع عام...".
[4]- انظر: العبدلاوي،
وسائل الاثبات، م.س، ص 70 – 71.
[5]- انظر في ذلك:-
محمد الربيعي، محررات الموثقين وحجيتها في الإثبات في التشريع المغربي، رسالة لنيل
دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية الحقوق بالدار البيضاء، السنة
الجامعية 1987-1988، ص: 115 وما يليها.
[6]- جاء في المادة 24
من مدونة الأوقاف ما يلي: "يشترط لصحة الوقف شرطان:
- الإشهاد على
الوقف...".
[7]- جاء في المادة 25
من هذه مدونة الأوقاف ما يلي: "يتلقى العدول الإشهاد على الوقف.
وإذا تعذر تلقي هذا
الإشهاد، اكتفي استثناء بوثيقة الوقف الموقعة من قبل الواقف مصادقا على صحة
توقيعها طبقا للقانون...".
[8]- من ذلك ما نصت
عليه م.ح.ع في المادة 106 التي جاء فيها:"تنعقد العمرى بالإيجاب والقبول.
يجب تحت طائلة البطلان
أن يبرم عقد العمرى في محرر رسمي.
لا تشترط معاينة
الحوز لصحة عقد العمرى".
والمادة 147 التي تنص على
أنه:"يشترط لصحة الرهن الحيازي أن يبرم في محرر رسمي وأن يكون لمدة
معينة".
والمادة 268 التي تنص على
ما يلي:"يجب أن يبرم عقد المغارسة في محرر رسمي، ويشترط لصحته أن يعين نوع
الشجر المراد غرسه ويبين حصة الغارس في الأرض وفي الشجر".
[9]- تم تتميم أحكام
المادة 174 من م.ح.ع بمقتضى مادة فريدة من القانون رقم 22.13 القاضي بتتميم المادة
174 من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية؛ ج.ر. عدد 6208 بتاريخ 24
محرم 1435 (28 نوفمبر 2013)، ص 7328. وأصبحت المادة بعد التتميم تنص على ما يلي:"
ينعقد الرهن الاتفاقي كتابة برضى الطرفين ولا يكون صحيحا إلا إذا قيد بالرسم
العقاري.
لا تسري أحكام المادة 4
أعلاه على إنشاء أو نقل أو تعديل أو إسقاط الرهن الاتفاقي المقرر لضمان أداء دين
لا تتجاوز قيمته المبلغ المالي المحدد بنص تنظيمي".
وتبعا لذلك صدر هذا النص
التنظيمي في شكل قرار مشترك بين وزير الفلاحة و الصيد البحري ووزير العدل والحريات
ووزير الاقتصاد والمالية تحت عدد4517.14 بتاريخ 17 أبريل 2015، الذي حدد المبلغ
المالي للرهن المستثنى من أحكام المادة 4 من م.ح.ع في درهـ250.000.00ـم.
- انظر: ج.ر عدد 6369
بتاريخ 27 شعبان 1436 موافق 15 يونيو 2015، ص 5725.
[10]- ولم تذكر م.ح.ع
البطلان إلا في المادة 274 التي جاء فيها:"تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول.
يجب تحت طائلة البطلان أن
يبرم عقد الهبة في محرر رسمي".
والصدقة تقاس على الهبة
بموجب المادة 291 من م.ح.ع.