تفسير صيغ الوثائق العدلية (الجزء الأول)
من حيث المبدأ يعد العقد شريعة المتعاقدين،
ولذلك ليس للإدارات والقضاء الخيار بين تنزيل البنود المضمنة بهذه العقود وعدم
تنزيلها. ولأجل ذلك يتحتم النظر في صيغ العقود والتصرفات من حيث وضوح أو غموض
دلالتها على مقاصد المتعاقدين (مطلب أول)، فإذا ما ظهر أن هذه الصيغ يستوجب
تطبيقها أن تخضع للتفسير،[1] فينبغي أن يتم هذا
التفسير وفق قواعده القانونية والشرعية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: صيغ التصرفات من حيث الوضوح والغموض
نظم المشرع المغربي مسألة "تأويل
الاتفاقات" في المواد من 461 إلى 473 من قانون الالتزامات والعقود
(ق.ل.ع). وبالرجوع إلى هذه الفصول فإنها تتضمن تقسيما لصيغ التصرفات والعقود إلى
تعبيرات واضحة ينبغي تطبيقها مباشرة بدون تفسير إلا من باب الاستثناء (أولا)،
وتعبيرات غامضة توجب التفسير مباشرة (ثانيا).
أولا- التعبير الواضح.
الأصل في العقد الذي يتضمن صيغة واضحة
وصريحة أن يتم تطبيقه دونما حاجة إلى تفسيره، لكن هذا الأصل قد يرد عليه استثناء
يدعو إلى تفسير العقد الصريح على الرغم من صراحته ووضوحه، وعليه سنتناول فيما يلي
الأصل والاستثناء الوارد عليه:
أ – تطبيق العقد ذي التعبير الواضح.
ينص الفصل 461 من ق.ل.ع على ما يلي:
"إذا كانت ألفاظ العقد صريحة، امتنع البحث عن قصد صاحبها".
ويفيد هذا النص أنه إذا كانت إرادة
المتعاقدين واضحة من خلال التعبير الذي اختاراه مظهرا لإرادتهما، فلا يجوز للقاضي
أن يعدل عن هذه الإرادة الواضحة إلى إرادة غيرها يفترض أنها الإرادة الحقيقية
للمتعاقدين.[2]
إذ كلما كانت الإرادة واضحة إلا ويمنع البحث
عن النية المشتركة للمتعاقدين، فالعقد شريعة أطرافه والاتفاقات المنشأة على وجه
صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة لأطرافها، لا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في
الحالات التي ينص عليها القانون.[3]
والتعبير الصريح دليل على إرادة أطرافه
ونيتهم المشتركة، سواء كان بالقول أو الفعل "المعاطاة" أو الكتابة أو
الإشارة. ويكون التعبير صريحا كلما كان اللفظ واضحا محكما أو واضحا مفسرا. واللفظ
الواضح المحكم هو اللفظ الذي يحسن الأطراف اختياره واستعماله بإتقان في موضعه
للدلالة على المعنى المقصود من وضعه، فلا يحتمل التشابه والتأويل وهو كالمفسر في
وضوح دلالته ولكنه أقوى منه دلالة على المعنى.[4]
أما الواضح المفسر فهو: "ما فهم
المراد به من لفظه، ولم يفتقر في بيانه إلى غيره...".[5]
ويترتب على هذا الكلام وجوب العمل قطعا
باللفظ المحكم أو المفسر لأنه لا يقبل التأويل والزيادة في التفسير.[6]
والذي نستخلصه من هذا الكلام أنه كلما كان
التعبير واضحا إلا امتنع على القاضي البحث عما سواه ؛ وكلما كان غامضا إلا وللقاضي
أن يفسره أو يؤوله.
والأصل هو أن إعمال الشروط الواضحة المضمنة
بالعقد من مسائل القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض؛ إذ أن"قضاة الموضوع
مكلفون بتطبيق الاتفاقات المبرمة وليس من الجائز لهم تغييرها متى كانت شروطها
واضحة وبينة..."[7].
ولا يقتصر الوضوح على الألفاظ المحكمة بل
يشمل حتى الألفاظ الظاهرة. والظاهر "هو المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من
المعاني التي يحتملها اللفظ. ومعنى ذلك أن يكون اللفظ يحتمل معنيين
فزائدا، إلا أنه يكون في بعضها أظهر منه في سائرها، إما لعرف أو استعمال في لغة أو
شرع أو صناعة ولأن اللفظ موضوع له وقد يستعمل في غيره، فإذا ورد على السامع سبق
إلى فهمه أن المراد به ما هو أظهر فيه".[8]
ب- تفسير التصرف ذي التعبير الواضح.
قد تكون ألفاظ العقد أو التصرف صريحة
وواضحة، ومع ذلك فهي تحتاج إلى تفسير، وفي هذا المعنى، أشار المشرع المغربي في
الفقرة الأولى من الفصل 462 ق.ل.ع إلى أن العقد قد يكون محلا للتفسير "إذا
كانت الألفاظ المستعملة لا يتأتى التوفيق بينها وبين الغرض الواضح الذي قصد عند
تحرير العقد".
ويرجع سبب تفسير العبارات بالرغم من وضوحها
إلى أنه يقصد بالعبارات الواضحة " تلك العبارات التي تكشف بجلاء عن الإرادة
الحقيقية للطرفين، فلا يكفي أن تكون العبارات واضحة في ذاتها، طالما أنها عاجزة عن
الكشف عن هذه الإرادة، ويحدث هذا عندما يستخدم المتعاقدان ألفاظا واضحة، ولكنها
تكشف بظاهرها عن إرادة مغايرة للإرادة الحقيقية. فالمعنى الظاهر الذي توحي به هذه
الألفاظ ليس هو مقصود الطرفين، إذ يقصدان أمرا، ولكنهما يعبران عنه بألفاظ لا
تستقيم مع إبراز هذا الأمر، بل هي نص في أمر آخر.
وتكشف عن ذلك ظروف الواقع وملابساته. فهذه
الظروف ليست بعيدة عن العقد، ومن ثم يتعين ضمها لتعبيراته، حتى يمكن الوقوف على
النية المشتركة لطرفيه. ذلك أن هذه الظروف تعد في الحقيقة شطرا من التعبير في
مفهومه الواسع، ولذا لا يتعين إغفالها، إذ العقد ينشأ ويجري تنفيذه في بيئة
اقتصادية معينة، ويأتي وليد ظروف وملابسات تفرضها طبيعة المعاملات، ومن ثم لا يجب
إهدارها والتركيز فقط على التعبيرات المادية الرئيسية التي احتواها، ذلك أن المفروض
أن هذه التعبيرات تكشف عن الإرادة الحقيقية للطرفين وقت إبرام العقد، ولكن هذه
القرينة تقبل إثبات العكس بحيث إذا ثبت من ذات العقد أو الظروف الخارجة عنه أن هذه
التعبيرات لا تعبر بأمانة عن الإرادة الحقيقية، فإن هذه القرينة يجب إهدارها، وعلى
القاضي إجراء التفسير للكشف عنها. ولكن على القاضي أن يسلم بادئ ذي بدء بأن المعنى
الظاهر هو مقصود الطرفين حتى يقوم الدليل على العكس...".[9]
ويتبين من ذلك أن محل تفسير النصوص الواضحة
هو عدم التطابق بين المعنى التي تفيده والغرض الذي يهدف إليه المتعاقدان، وفي ذلك
يقول السنهوري: "إن القاضي قد يجد نفسه في حاجة إلى تفسير العبارات الواضحة،
مهما بلغ وضوحها، وسلس معناها، وارتفع عنها اللبس والإبهام، وذلك أن وضوح العبارة
غير وضوح الإرادة، فقد تكون العبارة واضحة في ذاتها، ولكن الظروف تدل على أن
المتعاقدين أساءا استعمال هذا التعبير الواضح، فقصدا معنى وعبرا عنه بلفظ لا
يستقيم له هذا المعنى بل هو واضح في معنى آخر، ففي هذه الحالة لا يأخذ القاضي
بالمعنى الواضح في اللفظ، ويجب عليه أن يعدل عنه إلى المعنى الذي قصد إليه
المتعاقدان".[10]
وقد طبق المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض
حاليا) هذه القاعدة عندما قرر بأن وضوح ألفاظ العقد لا يحول دون تأويله،[11] وأن "لمحكمة
الموضوع الحق في ألا تعتبر في العقود إلا معناها دون مبناها؛ وأنها حينما تقرر أن
العقد المبرم بين الطرفين هو عقد كراء لا عقد شركة تصحح الوضع بالنسبة للتعبير
الفاسد".[12]
غير أن قاضي الموضوع لا يستطيع الانصراف من
معنى ظاهر إلى آخر، إلا إذا بين أسبابا مقنعة بذلك، وإلا اعتبر محرفا لعقد واضح
وعرض حكمه للنقض. وفي هذا الاتجاه قضت محكمة النقض المصرية بأنه : "مهما يقال
بأن للمحكمة أن تعدل عن المعنى الظاهر للعقد إلى ما تراه هي أنه مقصود المتعاقدين،
فلا شك في أنه يكون عليها إذا ما رأت أن تأخذ بغير ظاهره، أن تبين في حكمها لم
عدلت عن المدلول الظاهر إلى خلافه، وكيف أفادت عباراته المعنى الذي أخذت به ورجحت
أنه مقصود المتعاقدين بحيث يتضح من هذا البيان أنها قد اعتمدت في تأويلها إياه على
اعتبارات مقبولة يصح معها استخلاص ما استخلصته منها. فإذا هي لم تفعل كان حكمها
معيبا بقصور أسبابه".[13]
وهي القاعدة نفسها التي كرستها محكمة النقض
المغربية -المجلس الأعلى سابقا- في قرار جاء فيه: "ذلك أنه وإن كانت لمحكمة
الموضوع السلطة في تفسير العقود المعروضة عليها وفق مقصود العاقدين، فان ذلك مشروط
بأن تبرز في قرارها العناصر التي على أساسها عدلت عن مدلول العقد الظاهر للعقد إلى
خلافه".[14]
ومن الأمثلة على تفسير العبارات الواضحة أن
يحصل تعارض بين عبارتين واضحتين في العقد الواحد، كما لو جاء في مكان من العقد أن
الثمن الذي يلتزم به المشتري هو ألف ثم جاء في مكان آخر من نفس العقد أنه ألفان.
فالعبارتان السابقتان واضحتان لو نظرنا إلى كل منهما على حدة. ولكن تقريب إحداهما
من الأخرى يظهر غموضا في حقيقة المقصود منهما وهنا نكون في حاجة إلى تفسير هاتين
العبارتين لكي نصل إلى ما ارتضته الإرادة المشتركة.[15]
وأكثر الأمثلة في هذا الاتجاه تغلب في
الوقائع التي يشتبه فيها عقد البيع بعقود أخرى.[16] فقد يكون القصد هو البيع
إلا أن المتعاقدين يعبران بالإيجار كأن يبيع الشخص المحصول الناتج عن الأرض
والمهيأ للجني فلا يعبر عنه بالبيع وإنما بالإيجار للأرض خلال مدة كذا، واستغلال
محصولها والانتفاع به، أو من يستأجر شقة لمدة زمنية معينة مقابل أقساط شهرية، وعند
نهايتها والوفاء بجميع الأقساط يتملك الشقة. فالعقد عقد للبيع والإيجار ساتر له؛
وهو ما يعرف بالإيجار الساتر للبيع Location-vente ؛ أو من يخير الطرف الآخر في
الوفاء مقابل البضاعة التي تسلمها، بين تقديم شيء معين أو مبلغ محدد من النقود.
فالعقد في الافتراض الأول مقايضة وفي الافتراض الثاني بيع. أو من يهب مالا من
أمواله فلا يعبر بالهبة وإنما بالبيع مع أن الثمن المسجل تافه لا يتناسب البتة مع
القيمة الحقيقية للمبيع؛ وقس على ذلك.[17]
ومن الأمثلة التي تشكل أيضا استثناء يلجئ
إلى تفسير النص الصريح والواضح إذا ما تعارض مع قصد المتعاقدين حالة الصورية، التي
لا تبقي حرمة للعقد رسميا كان أم عرفيا؛ إذ للغير أن يحتج بالصورية بمختلف وسائل
الإثبات إذا لم يكن يعلم بها، والخلف الخاص يعتبر في حكم الغير. وهو ما
نص عليه المشرع في الفصل 22 من ق.ل.ع. وفي الفصول من 62 إلى 65 منه
اعتد المشرع بالسبب الحقيقي المشروع إلى أن يثبت العكس. ثم في الفصول
419 و424 و448 منه أجاز إثبات الصورية بالشهادة وحتى بالقرائن القوية المنضبطة.
وقد سبق أن أفضنا الكلام
في هذه المسألة في المقالة التي تناولنا فيها عنصر السبب (الجزء الثالث).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- القواعد التي تطبق في
مجال تفسير النصوص القانونية التشريعية، هي نفسها التي تطبق في مجال تفسير العقود،
ولذلك فإن تعريف تفسير العقود يمكن استنباطه من تعريف تفسير النصوص القانونية
المسمى بالتفسير القانوني، وهو يعرف حسب بعض الفقهاء الغربيين بأنه العملية التي
من خلالها تتضح معاني وحمولات القواعد القانونية.
Selon le professeur Côté, l’interprétation juridique est: le processus par
lequel sont déterminés le sens et la portée des règles énoncées dans le texte.
.Pierre-André CÔTÉ - Interprétation des lois -Éditions Thémis.-
Montréal-3e éd - 1999- p 4.
[2]- انظر : محمد شيلح،
سلطان الإرادة في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي، رسالة لنيل دبلوم
الدراسات العليا، كلية الحقوق بالرباط، 1983، ص 245.
[3]- الفصل 230 من
ق.ل.ع.
[4]- علي حسب
الله، أصول التشريع الإسلامي، دار المعارف، القاهرة، ط 5، 1976، ص 270.
[5]- أبو الوليد سليمان الباجي،
كتاب الحدود في الأصول، تحقيق نزيه حماد، مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر، بيروت،
1973، ص 46.
[6]- علي حسب الله، م س،
ص 270.
[7]- قرار المجلس
الأعلى –سابقا- بتاريخ 13 فبراير 1962، مجلة القضاء والقانون، ع 48-49، سنة 1962،
ص 379 وما بعدها.
- وجاء في قرار آخر:
"... يتجلى بالرجوع
إلى الرسالة المشار إليها، والتي جاءت ألفاظها واضحة فيما تدل عليه من التزام
المطلوبة في النقض بمحض إرادتها ورضاها بإفراغ المحل المكترى من طرفها في متم
دجنبر 1981، أنها لا تقبل أي تأويل مما يمنع معه عن قضاة الموضوع البحث عن القصد
منها...".
- القرار عدد 1165 الصادر
بتاريخ 15 ماي 1985 ؛ منشور بالمجلة المغربية للقانون ؛ العدد 11، فيراير-مارس
1987، ص 44 وما بعدها.
[8]- الباجي، م س، ص
43.
[9]- عبد الحكيم فودة، تفسير
العقد في القانون المـصري والمـقارن، منـشأة المـعارف بالإسكـندرية، 1984، ص 203
-204.
[10]- عبد الرازق
السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، طبعة
2000،ج 1، ص 490.
[11]- القرار عدد 5062،
الصادر بتاريخ 07 يناير 1976، منشور بمجلة المعيار، العدد 1،
سنة 1978، ص 45 وما بعدها.
[12]- حكم المجلس
الأعلى –سابقا- عدد 308 صادر بتاريخ 20 أبريل 1966، منشور بمجلة القضاء والقانون،
عدد 85-87، يناير-مارس 1968، ص 289 وما بعدها.
[13]- نقض مدني بتاريخ 3
يناير 1946. مجموعة عمر. 5 رقم 18. ص 36 ، حسبما أشار إليه الأستاذ عبد
الرازق السنهوري في الوسيط، ج 1، م.س، ص 491 هامش رقم 1. وإلى جانب هذا القرار
أورد السنهوري قرارات عديدة أخرى في نفس المعنى بالهامش نفسه.
[14]- قرار
عدد 3377 بتاريخ 24 أكتوبر 2007، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد
69، سنة 2008، ص 39 وما بعدها.
[15]- عبد الفتاح
عبد الباقي، نظرية العقد والإرادة المنفردة، مطبعة نهضة مصر، 1984، ص 522.
[16]- انظر : السنهوري.
الوسيط، م س، ج 4 ، ص 23 وما يليها.
[17]- انظر : السنهوري.
الوسيط، م س، ج 4 ، ص 23 وما يليها.