مقتضيات تحرير الشهادة العدلية (الجزء الأول)
تحرير الشهادة هو كتابتها وإخراجها من إطار
مذكرة الحفظ المدرجة بها، ورسمها بكل تفاصيلها وجزئياتها في وثيقة مكتوبة وفقا
للكيفية المتعارف عليها فقها وعملا وقانونا، تمهيدا لتقديمها للقاضي المختص
لمراقبتها والعمل على تضمينها ثم أدائها والخطاب عليها.[1]
وقد نصت على هذا العنصر المادة 33 من قانون
خطة العدالة، [2] وتم تنظيم الإجراءات
الخاصة به بواسطة المرسوم التطبيقي لقانون خطة العدالة في المواد من 25 إلى
27.
وبالرجوع إلى النصوص القانونية السابقة تظهر
لنا بعض المقتضيات المتعلقة بالتحرير، منها ما هو مستجد ومنها ما كان منصوصا عليه
بالقوانين السابقة الملغاة، ومن تلك المقتضيات اشتراك العدلين في المسؤولية عن
التحرير (مطلب أول) والتزامهما بالحفاظ على وحدة الوثيقة المحررة (مطلب ثاني) وعلى
بنية الوثيقة المحررة وبيانات الشهادة المتلقاة (مطلب ثالث).
المطلب الأول: اشتراك العدلين في المسؤولية عن التحرير
يعد العدلان بمقتضى قانون 16.03 مسؤولين معا
عن تحرير الشهادة والالتزام بضوابط هذا التحرير؛ وذلك ما يستنتج من الفقرة الأولى
من المادة 33 التي ورد فيها أن الشهادة: "تكتب... تحت مسؤولية العدلين...".
وتقرير المسؤولية يستوجب الحديث عن حكم
التحرير (أولا) وعن تعذره (ثانيا) و عن الحالات التي قد يمتنع فيها
العدل عن التحرير (ثالثا) ثم عن مسؤولية العدل العاطف عن التحرير(رابعا).
أولا- حكم التحرير.
يستفاد من منطوق المادة 33 من قانون
16.03 أن حكم التحرير هو الوجوب العيني على من تلقى الشهادة؛ فالتحرير يعد من أوجب
الواجبات الملقاة على عاتق العدول؛ فليس للعدلين أن يتملصا من تحرير الشهادة بعدما
تلقياها، لأن هذا التحرير هو الذي تتوقف عليه الإجراءات الأخرى التي تؤدي إلى
إضفاء الصفة الرسمية على الوثيقة العدلية.
ثانيا- تعذر التحرير.
سكت المشرع عن الحالة التي يتعذر فيها
على العدلين تحرير الشهادة في الأجل المحدد لذلك -وهو ستة أيام في الأحوال
العادية-؛[3] ولذلك قد يقال بأن هذه
الحالة تشملها المادة 21 من المرسوم التطبيقي لخطة العدالة التي تنظم مسطرة
التعريف بخطوط وأشكال العدول؛[4] استنتاجا من عبارة
"أو عاقه عائق عن الأداء" الواردة بهذه المادة؛ إلا أننا لا نرى هذا
الرأي لأن العبارة الواردة صريحة في تعذر الأداء لا التحرير، فالمفترض أن المادة
تتحدث عن الحالة التي تعذر فيها الأداء بعد أن تم التحرير.
وحتى لو افترضنا بأن العائق عن الأداء يمكن
أن يشمل عدم تحرير الشهادة أصلا، فإن هذا الفهم ينبغي أن يقيد بأن العائق عن
التحرير أو الأداء اقترن بزوال صفة الانتصاب للإشهاد أصلا؛ والحال أننا هنا نتحدث
عن الحالة التي يتعذر فيها تحرير الشهادة – في الأجل المحدد- بسبب مرض العدل
–مثلا- لمدة تتجاوز الأجل المخصص لتحرير الشهادة، أو سفره لأمر طارئ أو ما شابه
ذلك من الأعذار والأسباب التي يبقى العدل –مع وجودها- منتصبا للإشهاد.
فليس من المعقول في مثل هذه الحالات أن نلجأ
للتعريف بشكل العدل أو بالرفع على خطه مع أنه لا يزال منتصبا للإشهاد.
ثالثا- الامتناع عن التحرير.
قد تصحب الشهادة ظروف تمنع العدل من
تحريرها. فمن الحالات العملية التي قد تؤدي إلى امتناع العدل عن التحرير أن يتلقى
شهادة باطلة ثم لا يتنبه إلى هذا البطلان إلا بعد تمام التلقي، سواء قبل توقيع
الأطراف أو بعده. ففي نظرنا لا ينبغي العمل في مثل هذه الحالة بما نصت عليه المادة
20 من المرسوم التطبيقي لخطة العدالة،[5] لأن هذه المادة
إنما تتحدث عن شهادة صحيحة تلقاها العدل ثم امتنع الأطراف عن التوقيع بعد أن تمت
الشهادة بأركانها ومنها توفر الإيجاب والقبول فورا في مجلس العقد، أما هنا فنحن
نتحدث عن شهادة باطلة أساسا بموجب الشرع أو القانون تلقاها العدل لسبب من الأسباب
ثم اكتشف البطلان بعد التلقي وقبل التحرير؛ ومثال ذلك في التصرفات العقارية أن
يتلقى بيعا يرد على تجزئة عقارية بدون الاعتماد على شهادة التسليم المؤقت، أو أن
يتلقى هبة يعقدها قاصر لشخص آخر.
ففي مثل هذه الحالات لا نرى أن يحرر العدلان
شهادة يعلمان أنها باطلة، وحتى لو حرراها فمن المفروض أن لا يخاطب عليها قاضي
التوثيق، ما دام مخولا له بسط رقابة موضوعية وشكلية على الوثائق قبل الخطاب عليها؛
فإن اعتقد القاضي بأن الشهادة باطلة، ولذلك لم يخاطب عليها، ثم حصل ضرر لأحد
الأطراف من جراء ذلك، فلهذا الطرف أن يتابع العدلين لأجل الحصول على التعويض، حتى
لو سلم –فيما بعد- بأن الشهادة باطلة؛ ولا مانع من ترتيب المسؤولية التأديبية على
العدلين بسبب ما ظهر من عدم التحري.[6]
رابعا- مسؤولية العدل العاطف عن التحرير.
بالرغم من أن العدلين يتحملان
المسؤولية معا عن تحرير الشهادة والالتزام بضوابط هذا التحرير، فإن الغالب في
التطبيق أن العدل المتلقي هو الذي يأخذ المبادرة في تحرير الشهادة، بينما يكون
رفيقه قد نسي أمرها لأنها لم تدرج في مذكرته هو ولأنه يكون منشغلا بأعماله التوثيقية
الخاصة التي تصرفه عن تتبع كل الشهادات المكتوبة بمذكرة الحفظ التي يمسكها رفيقه.
فمن هذه الناحية، يبدو أن تحميل المسؤولية للعدلين – حسب الظاهر من تعبير المادة
33- فيه نوع من العنت والحرج بالنسبة للعدل الثاني.
نعم، من اللائق تحميل المسؤولية للعدلين معا
في الشق الثاني منها المتعلق بحرصهما على أن تحرر الوثيقة وفق الضوابط القانونية
التي سنتها المادة 33، لولا أن أعراف العدول وعاداتهم أصبحت تجري على خلاف ذلك –
في الأعم الغالب-؛ إذ أن العدل الذي تلقى الشهادة بمذكرة الحفظ الخاصة به، هو الذي
يتكلف بمراجعة الشهادة المحررة، وهو الذي يحرص على مراعاة الضوابط القانونية
للتحرير، ومن النادر أن يشاركه العدل العاطف في ذلك.[7]
والنظرة الواقعية للأحوال والظروف التي حتمت
مثل هذه العادات والأعراف المخالفة –ظاهريا- لمنطوق النص، تنفي عن هذا الأمر
أن يكون مجرد استهتار أو لا مبالاة بالقانون.
إذ أن العدل العاطف يعرض – غالبا- عن تمحيص
الوثيقة لعدة أسباب قد تجتمع وقد تتفرق، ومن بين هذه الأسباب تفادي الانشغال
بقراءة وثائق لم يأخذ عليها نصيبه من الأجرة[8] وإنما وقعها خجلا،
أو ثقة منه برفيقه لمعرفته المسبقة بأسلوبه وطريقته في الصياغة؛ ومنها عدم إيجاد
الوقت الكافي لمراجعة ما حرره رفيقه، فهذا الوقت قد لا يكفيه هو شخصيا لمراجعة ما
حرره لنفسه، فبالأحرى أن يراجع ما لم يحرره هو، بل حرره رفيقه.
ومن الأسباب أن يحرص العدل على إيجاد رفيقه
في وقت معين حتى يسلمه الوثيقة ليقرأها ويراجعها ثم يوقعها، فيحدث أن لا يجده في
مكتبه في الوقت الذي يريده هو،[9] بل يجده في وقت
آخر لا يكفي إلا لكي يضع العاطف توقيعه على الوثيقة لكي يتمم المتلقي الأصلي إجراءاتها وينجزها في الوقت المحدد الذي وعد به
المتعاقدين.
ونجد من أهم الأسباب أن صياغة الوثائق
تختلف بين العدول لتنوع أفهامهم وتفاوت معارفهم، مما يجعل العدل العاطف –رعاية
لذلك- يتغاضى عن تنبيه رفيقه خشية أن يأبى النصيحة أو أن يدخل معه في نقاش عقيم؛
وقد يحصل هذا الأمر كثيرا في أمور النحو
واللغة، كما يحدث في تفسير النصوص القانونية والتوفيق بينها والترجيح عند التعارض،
فالاختلاف وارد بكثرة، وهو من طبائع الناس على كل حال.
ومن الأسباب أيضا أن معظم الشهادات
التي يمضيها العدل الثاني يعلم مسبقا أنها شهادات لا تعتريها خطورة – في الغالب-
فإذا ما وجد شهادة تكتسي خطورة أو تتطلب تدقيقا أو غير شائعة في العمل، أو ليست من
النوع الذي تعود رفيقه على تلقيه وتحريره، فإنه في هذه الحالة غالبا ما يعمد إلى
الحرص أولا على حضور عملية التلقي من بدايتها إلى نهايتها، وثانيا على تمحيص
بنودها ومناقشتها عند التحرير – مع رفيقه- حتى يأتي المحرر مطابقا لما تضمنه ملخص
الشهادة.
ومن أجل هذه الأسباب وغيرها، دعونا – في المقالة المتعلقة بالتلقي- إلى سن مسطرة التلقي
الفردي في إطار تصورنا عن الموثق العدل؛ وما دام هذا الأمر مستبعدا في الوقت
الحالي، فلا أقل من أن ندعو إلى عدم المبالغة في العتب على العدول بخصوص المسؤولية
المزدوجة عن تحرير الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - العلمي
الحراق،الوجيز في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة،مطبعة كانا برينت، الرباط،الطبعة
الأولى 2009، ص 108.
[2] - تنص المادة 33 من
قانون 16.03 على ما يلي: "تكتب الشهادة تحت مسؤولية العدلين في وثيقة واحدة
دون انقطاع أو بياض أو بشر أو إصلاح أو إقحام أو إلحاق أو تشطيب أو استعمال حرف
إضراب.
تذيل الوثيقة بتوقيع
عدليها مقرونا باسميهما مع التنصيص دائما على تاريخ التحرير.
تحدد بنص تنظيمي
الإجراءات الخاصة بتحرير الشهادات وحفظها".
[3] - تنص الفقرة
الأولى من المادة 27 من المرسوم التطبيقي لقانون خطة العدالة على ما يلي:
"يحرر العدل الشهادة ويقدمها للقاضي المكلف بالتوثيق في أجل لا يتعدى ستة
أيام من تاريخ تلقيها ما لم ينص على خلاف ذلك".
[4] - تنص الفقرة
الأولى من المادة 21 من المرسوم التطبيقي على ما يلي: "إذا توفي عدل أو زالت
عنه الصفة أو انتقل أو فقد أهليته أو عاقه عائق آخر عن الأداء بعد أن تلقى شهادة
بصفة قانونية وأثبتها في كناش الجيب المعمول به سابقا أو في مذكرة الحفظ؛ كلف
القاضي المكلف بالتوثيق – بناء على طلب يقدم إليه من ذوي المصلحة – عدلين للتعريف
به مع إدراج نص الشهادة موضوع التعريف في مذكرة الحفظ لأحد العدلين المعرفين ضمن
شهادة التعريف ثم يحرر رسم بذلك ويضمن بسجل التضمين".
[5] - تنص المادة 20 على ما يلي: "في
حالة الامتناع عن التوقيع أو وضع البصمة أسفل الشهادة بعد إدراجها بمذكرة الحفظ؛
يشير العدلان إلى هذا الامتناع قبل توقيعهما؛ ويخبران القاضي المكلف بالتوثيق فورا
بذلك".
[6] - وبالطبع فإننا
ندعو دائما – كما تعودنا- إلى عدم التسرع
في اتهام العدل بعدم التحري. فأحيانا يكون العدل على علم تام بالشهادة وأركانها،
ثم تأتي عليه مدة طويلة لم يحرر فيها شهادة على شاكلتها، فيحدث له من جراء ذلك سهو
ونسيان أو جهل مؤقت، ثم ما يلبث العدل أن يتذكر بطلان الشهادة مباشرة بعد التلقي. هذا
مع العلم بأن صنعة التوثيق لا تستدعي فقط كثرة الممارسة من أجل كسب الخبرة
بالمواقف والحالات، بل تتطلب أيضا اطلاعا واسعا وبحثا مستفيضا في الوثائق
ومقتضياتها الفقهية والقانونية.
[7] - قد يعرض العدل
الأول هو نفسه – في بعض الأحيان- عن مراجعة الشهادة التي يعهد بتحريرها إلى كاتب
أو كاتبة.
[8] - في كثير من
المناطق لا يتم –بحسب العادة والعرف- اقتسام الأجرة على السوية بين العدلين – بعد
خصم المصاريف أو عدم خصمها- وإنما يوقع هذا لهذا مجانا من أجل أن يوقع له هو
أيضا شهاداته. والاقتسام إنما يتم بين هؤلاء في الشهادات التي توجه
إليها العدلان خارج المكتب، أو في الشهادات التي يمحصانها معا ويدققان بنودها
لخطورة شأنها، وأغلبها يندرج في إطار التصرفات العقارية. وحتى في هاتين الحالتين
اللتين يتم فيهما قسم الأجرة فإن ذلك لا يتم على السوية. ومن هذا الباب سلط
الونشريسي –رحمه الله- سهام نقده على نظام التلقي الثنائي ونظام الموثق مع
الشاهدين السائدين في عهده في شمال إفريقيا لأنهما يخالفان ما تقرر من أحكام شركة
الأبدان التي من شرطها اقتسام الأجرة سوية. وقد تطرقنا لذلك في المقالة المتعلقة بالتلقي.
[9] - ليس شرطا أن لا
يوقع لمتلقي الشهادة إلا رفيقه الذي يكون معه في المكتب، فذلك أمر يشكل عنتا في
حالة غيبة أحدهما أو عدم اقتناعه بتلقي شهادة معينة مع رفيقه؛ بل إن مقتضيات قانون
التوثيق العدلي معطلة –نسبيا- في هذا الجانب الذي يقضي بأن كل مكتب عدلي ينبغي أن
يتكون من عدلين على الأقل؛ حسبما نصت عليه المادة 14 من قانون 16.03.