الالتزام بالتعاقد (الجزء الثالث)
ثانيا- أنواع الوعد بالتعاقد.
تندرج معظم أنواع الوعد
بالتعاقد–التي سندرسها-في إطار الوعد بالبيع بمعناه العام، ذلك أن بعض الفقهاء[1] يقسم الوعد بالبيع
(بالمعنى العام)إلى وعد بالبيع من جانب واحد promesse de vente وهو
ما يمكن أن نصطلح عليه بالوعد بالبيع بالمعنى الخاص، ومن صوره الخاصة الوعد
بالتفضيل[2]pacte de préférence،
وإلى وعد بالشراء من جانب واحد promesse d’achat، وإلى وعد بالبيع وبالشراء promesse de vente et
d’achat ويجعل تحت هذا النوع حالة الوعد بالبيع وبالشراء من جانب
واحد وحالة الوعد بالبيع وبالشراء الملزم لجانبين،[3] وهي الحالة التي تندرج
في نطاق ما يتم الاصطلاح على تسميته بالاتفاقات أو العقود الابتدائية لأنها تتميز
بأحكام مستقلة تماما عن الحالات الأخرى للوعد بالتعاقد، وليست هي موضوع مقالتنا.
ولذلك سنتحدث في ما يلي عن الوعد
بالبيع وعن الوعد بالشراء[4] ثم الوعد بالتفضيل.
أ- الوعد بالبيع.
الوعد بالبيع التزام بالبيع دون الشراء،
يتقيد فيه الواعد بالبيع ولا يتقيد فيه الموعود له بالشراء، فهو عقد ينشأ بإرادتين
اثنتين، إرادة البائع وإرادة المشتري، غير أنه لا يلزم سوى إرادة البائع فيما وعد
به. والمشتري لا يلزمه في شيء. والأشخاص في معاملاتهم يضطرون أحيانا إلى الحصول من
الآخرين على وعود بالبيع دون أن يتقيدوا هم بالشراء لسبب يدفعهم لذلك، والمثال
عليه فيمن يرغب في شراء قطعة أرضية أو شقة أو صفقة تجارية إن هو تمكن من تحصيل
مبلغ الثمن في أجل يتفق عليه، أو تحقق من مدى سلامة المبيع في القانون والواقع،
فتراه يسعى جاهدا في الحصول على وعد بالبيع يحتضن عليه، فلا هو أضاع فرصة الشراء
ولا هو التزم بشيء، وذلك مبلغ الجمع بين الحسنيين. وإذا ما تهيأ له الثمن أو تأكد
من سلامة المبيع تقدم إلى البائع ليطالبه بتنفيذ وعده وإتمام البيع وإلا كان في حل
من أمره فالوعد لا يلزمه. وليس للبائع أن يتصرف في المبيع مدة الوعد وإلا كان
مسؤولا مسؤولية البائع لملك الغير. والوعد بالبيع عقد كسائر العقود لا يصح إلا إذا
توافرت فيه شروط الانعقاد وشروط الصحة...
وقد يقع أن يجمع الأطراف في العقد الواحد ما
بين أحكام الوعد بالبيع وأحكام العربون حينما يلتزم المشتري الموعود له بدفع مبلغ
نقدي حسب المتعارف عليه دون أن يلتزم بالطبع بالشراء، فالعقد تسري عليه الأحكام
جميعا...[5]
والوعد بالبيع... ليس –حتما- بيعا نهائيا
إنما هو مقدمات للبيع النهائي. فمتى حصلت الشروط المتفق عليها بين الواعد والموعود
تم تحرير عقد البيع النهائي،[6] ومتى حل الأجل ولم تتحقق
هذه الشروط فيكون الطرفان أو أحدهما في حل من أمره إن شاء أمضاه وإن شاء نقضه. وهو
عقد يخضع في جميع شروطه لإرادة الطرفين إلا إذا نصت مقتضيات قانونية خاصة على خلاف
ذلك.[7]
ويتم التساؤل في الوعد بالبيع عن مدى إلزام
الوعد للبائع، هل هو إلزام مطلق على مر الأيام طالما لم يعبر الموعود له عن رغبته
في الشراء أو العدول، أو إلزام مقيد بأجل أو شرط؟ نسارع إلى القول -مع بعض الفقه-[8] بأن العقد شريعة
المتعاقدين؛ إلا أن العمل يجري عادة على تقييد الوعود بالبيع بالآجال أو الشروط
الواقفة تبعا لنوع المعاملة وطبيعتها وظروفها.[9]
ففي الآجال يعلق البائع الوعد على أجل محدد
يتعين على الموعود له أن يمارس خلاله حقه في الشراء وإلا ضاع منه الوعد وفسخ،[10] وليس للمحكمة إطلاقا أن
تمدد الأجل...[11] وفي الشروط يعلق البائع الوعد على شرط واقف
إذا لم يتحقق كان الوعد مفسوخا. والمثال عليه... فيمن يلتزم ببيع قطعة أرضية في
تجزئة في طور التهيييء إذا ما صدر الترخيص الإداري بشأنها.[12]
والشرط الذي يحدد له أجل لوقوعه يعتبر
متخلفا إذا انقضى الأجل ولم يقع. وفي هذه الحالة ليس للمحكمة أن تمدد الأجل . وأما
لو أطلق الشرط دون تقييد في الأجل فإنه يبقى على إطلاقه ما لم يصبح مؤكدا عدم
وقوعه.[13]
ويجوز-في نظرنا- أن يتضمن عقد الوعد بالبيع
شرطا جزائيا أو ما يسمى بالتعويض الاتفاقي حسب ما نصت عليه الفقرة الثانية من
الفصل 264 من ق.ل.ع.[14]
وللمحكمة إذا ما تداعى إليها الأطراف بشأن
الشرط الجزائي أن تخفض التعويض المتفق عليه إذا كان مبالغا فيه أو ترفع من قيمته
إذا كان زهيدا، ولها أيضا أن تخفض من التعويض المتفق عليه بنسبة النفع الذي عاد
على الدائن من جراء التنفيذ الجزئي.[15]
وإذا لم يتفق الأطراف على هذا التعويض
الاتفاقي فيمكن اللجوء إلى المحكمة لإقرار غرامة تهديدية في حق الممتنع عن تنفيذ
التزامه، وذلك لأن الوعد بالتعاقد يعتبر نوعا من الالتزام بعمل؛[16] والحكم القاضي
بالغرامة يقوم مقام العقد، وقد يحكم بها بصورة مستقلة أو بواسطة الحكم القاضي
بإتمام البيع، ويجري الحكم بهذه الغرامة كذعيرة يومية تحتسب من تاريخ الامتناع عن
التنفيذ.
ويمكن أيضا – في نظرنا- أن يتفق الأطراف في
عقد الوعد بالبيع على اعتبار هذا العقد قيدا مانعا من التصرف، حتى يتسنى تقييده
تقييدا احتياطيا بالرسم العقاري، إذا ما انصب هذا الوعد على عقار محفظ، أو تقييده
بكناش التعرضات إذا ما انصب على عقار في طور التحفيظ.
ويرجع هذا الرأي إلى الرغبة في الخروج من
الخلاف الذي أثارته مسألة مدى قابلية الحقوق الشخصية للتقييد على الرسوم العقارية
على غرار الحقوق العينية، فمن المعلوم أن الوعد بالبيع وما في حكمه لا ينشئ حقا
عينيا تاما وإنما حقا محتملا.
فقد اختلف في مدى قابلية الحقوق المحتملة
(الشخصية) للتقييد الاحتياطي أو النهائي، وفي هذا الصدد ذهبت محكمة النقض الفرنسية
بتاريخ 2 فبراير 1954 إلى نقض قرار محكمة الاستئناف بالرباط الصادر بتاريخ 20
فبراير 1951 الذي رفض التقييد الاحتياطي بدعوى أن الحقوق العينية وحدها هي التي
تقبل التقييد عملا بالفصل 85 من ظهير التحفيظ العقاري، وأن الوعد بالبيع أو حق
الأفضلية لا ينشئان سوى حقوق شخصية ليس غير. وبنت نقضها بالتركيز على سياق الفصل
85، فهي سياق عامة لا تمنع من التقييد لكل حق عيني تام أو محتمل.[17]
وموقف محكمة النقض الفرنسية يحظى بدعم بعض الفقه،
[18] لأن سياق الفصل 85 في التقييد الاحتياطي سياق عامة، ومصطلح "الحق" ورد فيه على الإطلاق دون الحصر من وجه، ومن وجه آخر ورد مقرونا بمصطلح الادعاء : "يمكن لكل من يدعي حقا" والادعاء يفيد القطع والاحتمال. وبالتالي فلا مانع يمنع من طلب التقييد بالوعد بالبيع وما في حكمه. ويدعو بعض الباحثين[19] إلى انتهاج سبيل مسلك آخر للحفاظ على الحقوق المحتملة مع التقيد بما يقتضيه نظام التقييد الاحتياطي. فقد ذهب إلى القول بجواز تقييد الوعد بالبيع كقيد مانع من التصرف عملا بالفقرة الخامسة من الفصل 69 من قانون التحفيظ العقاري...ونحن نؤيد هذا الرأي الذي ينسجم مع طبيعة
الوعد بالبيع إلا أننا نقيده – مع بعض الفقه-[20] من جهة بأن يصرح البائع
في عقد الوعد بالبيع بقبوله تقييد الوعد بالرسم العقاري كقيد مانع له من التصرف،
لأنه قيد اتفاقي ولا يقوى المحافظ على تقييده دون اتفاق صريح،[21] كما أن المحكمة عند
الاقتضاء لن تحكم به، فمهمة القضاء الفصل في النزاع لا إعانة الأطراف على إنشاء
العقود، ومن جهة أخرى بأن يكون الوعد بالبيع وعدا تاما غير مقيد بأجل أو شرط .
فلا مانع عندنا من التقييد الاحتياطي للوعد
بالبيع في نطاق العمل بنظرية القيود المانعة من التصرف التي اشترط لها القضاء
الفرنسي شرطين هما المدة المعقولة والباعث المشروع، وذلك لأنها من تطبيقات القواعد
العامة ليس غير، والحكم في هذه القواعد أنه يعمل بها ولو بدون نص[22] أو اجتهاد.
لكن العمل بذلك – في المجال التوثيقي- مشروط
بأن يتم النص صراحة في عقد الوعد بالبيع على الطلب الموجه من المشتري إلى المحافظ
بتقييد الوعد بالبيع كقيد مانع من التصرف شريطة موافقة البائع على ذلك.
ب- الوعد بالشراء.
يعرف الوعد بالشراء بأنه عقد يلتزم
بمقتضاه الواعد خلال المدة التي حددها، بأن يشتري من شخص معين ملكا له إذا ما رغب
هذا الشخص في بيعه خلال الأجل المحدد من قبل المشتري.
وعليه، فإن الوعد بالشراء التزام بالشراء
دون البيع، يلتزم فيه المشتري بالشراء ولا يلتزم فيه البائع بشيء، وهو ينشأ كذلك
بإرادتين ولا تلتزم فيه سوى إرادة واحدة.[23]
ويترتب على ذلك أنه إذا رفض المشتري الشراء
خلال المدة المحددة في العقد كان من حق البائع أن يلجأ إلى القضاء لإرغامه على
إبرام البيع إن كانت أركان العقد الأخرى كلها تامة وإلا فيطلب الحكم له بتعويض عما
لحقه من ضرر بسبب فوات فرصة البيع.[24]
والمثال عليه... في المعاملات العقارية أن
يرغب شخص في بيع مسكنه إن هو عثر على مسكن آخر يناسبه، وحتى لا يضيع منه مسكنه
بالبيع يعمل على الحصول على وعد بالشراء ثم يسعى جاهدا في العثور على مسكن آخر
يشتريه، وإذا توصل إلى مراده تقدم إلى المشتري ليطالبه بالوفاء بالوعد وإتمام
البيع.
ففي الوعد بالشراء... يلتزم المشتري بالشراء،
والتزامه بالشراء التزام قطعي عليه أن يفي به وإلا حق للبائع أن يطالبه قضائيا
بإتمام البيع ولو تحت طائلة غرامة تهديدية. وأما البائع فلا التزام عليه، إلا أنه
إذا ما قرن الوعد بالشراء بالعربون فإن البائع يصير ملتزما تبعا لأحكام العربون،
والعقد عندها يصير عقدا ابتدائيا يلزم الجميع بإتمامه، ما لم يشترط البائع مع ذلك
عدم التزامه بالبيع وأنه بالخيار، فالعربون عند ذاك يكون مجرد ضمان لإتمام البيع
على المشتري، إذا تم البيع خصم وإلا رد ما لم يثبت خطأ من المشتري يبرر الاحتفاظ
بالعربون إلى أن تحكم المحكمة بالتعويض عند الاقتضاء. وهو مثل الوعد بالبيع في
الأحكام، وبدل التزام البائع هناك التزام المشتري،[25] فنحيل على تلك الأحكام
في موضعها من هذه المقالة.
ج- الوعد بالتفضيل.
إن عقد الوعد بالتفضيل (أو الوعد
بأفضلية البيع) ليس وعدا بالبيع ولا بيعا ابتدائيا وإنما هو التزام من المالك ببيع
ملكه للطرف الثاني إن أراد المالك بيعه خلال مدة معينة.[26]
وعليه فإن الوعد بالتفضيل التزام من الراغب
في البيع بعدم تفضيل الغير على المشتري الموعود له، فهو التزام ينشأ بإرادتين ولا
تلتزم فيه سوى إرادة واحدة، هي إرادة الراغب في البيع. وأما المشتري الموعود له
فإنه بالخيار إن شاء تقدم ليطالب بإتمام البيع وإن شاء عدل. والوعد بالتفضيل شبيه
بالوعد بالبيع، والفارق بينهما يرجع إلى أنه في الوعد بالبيع ينشأ الالتزام بالوعد
منذ التوقيع على العقد، وأما في الوعد بالتفضيل فلا ينشأ إلا عند الرغبة في البيع،
وأما قبلها فلا شيء على الواعد.
والذي نستنتجه مما سبق
أنه حينما تحصل الرغبة في البيع ينشأ الوعد بالتفضيل.[27] وبنشأته ينشأ معه الوعد
بالبيع بالطبع في جميع أحكامه وتعليقاته وقيوده.[28]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - عبد الرازق
السنهوري، الوسيط، م س، ج 4، ص 49 وما بعدها.
[2] - السنهوري، م س، ص
59 وما يليها.
[3] - وتسمى هذه الحالة
في الاصطلاح الفرنسي le compromis de vente وإذا ما أفرغت
في اتفاق تسمى عقدا ابتدائيا contrat préliminaire.
[4] - أما حالة الوعد
بالبيع وبالشراء من جانب واحد فليست لها أحكام تميزها عن الوعد بالبيع من جانب
واحد وعن الوعد بالشراء من جانب واحد، يقول السنهوري: "ففي الوعد بالبيع
وبالشراء من جانب واحد يجتمع الوعد بالبيع ملزما لجانب صاحب الشيء دون المتعاقد
الآخر، والوعد بالشراء ملزما للمتعاقد الآخر دون صاحب الشيء... فيكون صاحب الشيء
ملزما ببيعه إذا أظهر المتعاقد الآخر رغبته في الشراء في المدة المحددة، وقد لا
يظهر هذه الرغبة فيسقط الوعد بالبيع... ويكون من ناحية أخرى، المتعاقد الآخر ملزما
بالشراء إذا أظهر صاحب الشيء رغبته في البيع في المدة المحددة، وقد لا يظهر هذه
الرغبة فيسقط الوعد بالبيع... ونرى من ذلك أن هناك احتمالا في هذه الحالة أن كلا
من صاحب الشيء والمتعاقد الآخر، الأول لا يظهر رغبته في البيع والثاني لا يظهر
رغبته في الشراء فيسقط كل من الوعد بالبيع والوعد بالشراء في وقت واحد. وهذا بخلاف
الوعد بالبيع وبالشراء من الجانبين، فهذا وعد ملزم للجانبين وهو بيع كامل (وهو ما
يصطلح عليه بالبيع الابتدائي)، وليس هو اجتماع وعد بالبيع ملزم لجانب واحد ووعد
بالشراء ملزم لجانب واحد....".
- انظر: الوسيط، ج 4،م س،
ص 49.
[5] - بلعكيد، وثيقة
البيع...، م س، ص 246-247.
[6] - تتم الإشارة إلى
الوعد بالبيع في عقد البيع النهائي كما يلي :
"...تبعا للوعد
بالبيع الذي تم بين الطرفين السيد... والسيد.... بتاريخ... والذي بموجبه وعد الطرف
الثاني الطرف الأول ببيعه له جميع الملك المسمى... وفق آجال وإجراءات متفق عليها
بينهما بحسب رسم الوعد العدلي المؤرخ في...حضر الطرفان المذكوران أعلاه واشترى
الطرف الأول من الطرف الثاني جميع الملك المسمى..."
- العلمي الحراق، الوجيز
في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة، مطبعة كانا برينت، الرباط، الطبعة الأولى
2009، ص 229.