بينة التوثيق والحقوق بينة التوثيق والحقوق
random

آخر الأخبار

random
random
جاري التحميل ...

بيع الصفقة ومعضلة الشياع (الجزء الأول) - بينة التوثيق والحقوق

 

                        بيع الصفقة ومعضلة الشياع (الجزء الأول)

 


 

تقضي القواعد العامة بأن الإنسان حر في بيع ملكه، وأنه لا يبيع ملك غيره إلا بتوكيل خاص ؛ وأن مال الإنسان لا يؤخذ منه جبرا عنه؛ غير أن الاستثناءات قد ترد على هذه القواعد العامة مراعاة لمقاصد الشريعة الإسلامية أو لمبادئ القانون الطبيعي؛[1] وهي مبادئ تتوخى إزالة الأضرار ودرء المفاسد وتحقيق المصالح.[2]

والاستثناءات على القواعد العامة لا ترد إلا من باب مراعاة قواعد عامة أخرى؛ فنوفق بين القاعدتين المتعارضتين بأن نعتبر بأن الاستثناء الذي يراعي إحدى القاعدتين هو تفصيل أو بيان أو تخصيص أو تقييد للقاعدة المقابلة، يراد منه احترام المبادئ الشرعية والكونية.

ومن تلك الاستثناءات ما تضمنته قاعدة : "الإنسان غير  مجبر على البقاء في حالة الشياع"، فهو استثناء قد يخالف قاعدة: "لا يؤخذ مال الإنسان جبرا عنه"، ومنها ما تضمنته أحكام بيع الفضولي التي تخالف قاعدة عدم جواز بيع ملك الغير إلا بتوكيل منه.

فمثل هذه الاستثناءات إنما وجدت لرفع الضرر أو درأ المفسدة، من باب الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، ولذلك فهي تطبق في حدود الضرورة فلا يتوسع فيها إلا بقدر ما يحتمله الأمر.

 ومن قبيل ما يجري في هذا السياق، "بيع الصفقة" الذي أبدعه المتأخرون من فقهاء المالكية ؛ ونعني به في  الاصطلاح[3]: "البيع الذي يجريه أحد الشركاء لأجنبي في جميع المشترك مع تخيير شركائه بين ضم حصته لحصصهم بما نابها من الثمن المعروض، أو بإمضاء البيع للأجنبي".[4]

ولدراسة الجوانب التأصيلية الفقهية المتعلقة ببيع الصفقة، وبيان أهميته في الحد من الإشكالات العملية المترتبة عن معضلة الشياع، وما ينجم عنها من إجراءات قضائية مرهقة؛ فإننا نسعى – في هذا المقال- إلى الإحاطة بحد الكفاية من قواعد "بيع الصفقة" عبر مطلبين :

 المطلب الأول: بيع الصفقة بين التأصيل والإبداع.

المطلب الثاني : شروط وآثار بيع الصفقة.


المطلب الأول: بيع الصفقة بين التأصيل والإبداع 

 

لدراسة طبيعة بيع الصفقة نعالج مسألتين هما: صورة بيع الصفقة أولا وتكييف هذا البيع عند الفقهاءثانيا. 

 

أولا- صورة بيع الصفقة.

 يجري بيع الصفقة على كيفية يخالف بها سائر أنواع  البيوعات  المعروفة؛ "ولمعرفة كيفية هذا البيع علـينا أن نفرض أن دارا مشـتركة بين شخـصين أو أكــثر، ملكوها في وقت واحـد (بأن ورثـوها مثـلا أو اشتروها أو وهبت لهم) ثم أراد أحدهم أن يبيع نصيبه منها فتبين له أنه لن يجد مشتريا لذلك الواجب، أو أن الثمن الذي عرض عليه فيه أقل من الثمن الذي يباع به لو بيعت الدار كلها. فيمكن  لهذا الشريك  الراغب في بيع  واجبه أن يبيع الدار كلها من غير أن يحتاج إلى إذن شركائه الآخرين. 

ثم يبقى لهؤلاء الشركاء الخيار بين أن يمضوا البيع ويأخذ كل واحد نصيبه من الثمن على قدر ما يملكه في الدار، وبين أن يرفض ذلك البيع، وحينئذ يتعين عليه أن يضم نصيب الشريك الراغب في البيع، ويؤدي له حصته من الثمن الذي وقع به البيع".[5]                                                                              

 وتتضح صورة بيع الصفقة عند إبرامه مع شخص أجنبي عن الشركاء، يقول ميارة في رسالته تحفة الأصحاب : "وصورة بيع الصفقة عندنا أن من أراد البيع من الشركاء، باع جميع ذلك الشيء المشترك صفقة واحدة لأجنبي من غير رفع لحاكم... ويكتب الموثق في ذلك:[6] اشترى فلان من فلان وهو بائع عن نفسه وعمن شاركه بحكم الصفقة جميع كذا بجميع منافعه ومرافقه وحقوقها كلها اشتراء صحيحا لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار بثمن قدره لذلك كذا يدفع المشتري المذكور جميع الثمن المذكور بعد كمال الصفقة لا يبريه إلا الواجب وقلب ورضي عرفا قدره... ولا يكتب وتملك المشتري المذكور مشتراه تملكا تاما على السنة في ذلك والمرجع بالدرك. ثم يذهب البائع إلى بقية شركائه فيلزمهم أحد أمرين، إما أن يضموا أي يأخذوا حصة البائع بما نابها من الثمن ويضموها إلى حصصهم أو يكملوا أي يضمنوا للمشتري البيع من حساب ما باعه منهم، فإن ضموا طولبوا بالثمن وإن لم يضموا طولب به المشتري وكان البيع منعقدا من جهة البائع إذ لا يعود إليه مبيعه مطلقا... ويحتمل أنه منعقد أيضا من جهة المشتري انعقادا غير لازم لتوقفه على ما يفعل الشريك من الضم أو الترك".[7]

"ومن هذه الصورة يتبين أن بيع الصفقة يعني أن لكل شريك في المال المشاع الحق في أن يبيع ذلك المال كله بما فيه من واجبات غيره من الشركاء. مما يعني أنه يمكن للشريك أن يبيع ما لا يملكه، وأن يبيع ملك غيره من غير إذنه. وهذا كله مخالف للقواعد العامة التي تقضي بأن لا يبيع الإنسان إلا ما يملك. كما أن في إرغام الشريك المصفق عليه على أن يمضي بيع نصيبه أو يضم نصيب شريكه البائع مخالفة للقاعدة التي تقضي بأن الإنسان حر في البيع والشراء".[8]


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - بغض النظر عن مسألة الاعتقاد في قواعد القانون الطبيعي من عدمه، فمن الناحية النظرية على الأقل يعد القانون الطبيعي مجمع تلك النواميس والسنن الكونية الفطرية التي يستوي في معرفتها العقلاء سواء كانوا ذوي دين أو ملاحدة ؛ ومن تلك النواميس تستقى القواعد التي تختلف بحسب ا المعتقدات والتصورات والمفاهيم، والعدل من أشهر تلك النواميس، فكل العقلاء يرون أن الطبيعة تنفر من الظلم، وأن جزاء العدل _ كمفهوم طبيعي مجرد _ هو نصرة أصحابه، بصرف النظر عن انتمائهم العقائدي أو الفكري.

[2] - مع التقيد -طبعا- بأن تكون هذه المصالح حقيقية غير وهمية، و منضبطة بقواعد الشريعة والنظام العام والأخلاق، وأن لا تكون نفعية براغماتية يستفيد منها الفرد على حساب المجتمع .

[3] - وفي اللغة : الصفقة بفتح الصاد وسكون الفاء من الصفق أي الضرب الذي يسمع له صوت  وكذلك التصفيق، وهو الضرب بباطن اليد على الأخرى. والتسبيح للرجال والتصفيق للنساء عند التنبيه في الصلاة. وصفق له بالبيع صفقا وصفقة ضرب يده على يده دلالة على وجوب البيع. وصفقة رابحة أو خاسرة بيعة رابحة أو خاسرة.

- انظر : محمد ابن منظور، لسان العرب، دار صادر للنشر، بيروت، 2003، ج 10، ص 200.

[4] - عبد الرحمن بلعكيد، تصفية التركة، مطبعة النجاح الجديدة بالبيضاء الطبعة الأولى، 1433هـ _2012م، ص 384.

[5] - محمد ابن معجوز، الحقوق العينية في الفقه الإسلامي والتقنين المغربي، مطبعة النجاح الجديدة بالبيضاء، الطبعة الثانية 1999، ص 244.

[6] - والأولى هو إدراج الحكاية قبل ذكر الشراء، قال الصنهاجي: "الحكاية هي أن تذكر كلام غيرك بلفظه أو بمعناه من غير أن يكون لك علم به ولا هو مشهود به قصدا. واعلم أن الوثائق قد تشتمل على أوصاف وحكايات أي أخبار. والأوصاف إما لأحد المتعاقدين كوصفه بالعلم أو بالشرف. وإما للمبيع كقول الشاهد: الدار التي ورثها البائع من أبيه مثلا، أو التي اشتراها من فلان. أو يقول: الدار التي صارت له بمناقلة أو شراء أو إرث من فلان. ومثال الحكاية قوله: كان على ملك فلان إلخ فالإشهاد بعقد البيع مثلا لا يشمل ما ذكر في وثيقته من أوصاف وحكايات فلا يشمل استمرار الملك والموت والإراثة ولا يثبت شيء من هذا حتى يسنده الشاهدان إلى علمهما ويبينا مستند العلم فيقولا كما في علم شهيديه ويشهدان به بالمخالطة والاطلاع على الأحوال مثلا... وكتابة الوثيقة على الحكاية جائزة في البيع والصلح وغيرهما ولكن لا حجة فيها لأن مدار الوثيقة على ما تضمنه الإشهاد، والمقصود هنا هو الإشهاد على المتبايعين وتعيين المبيع وثمنه والشروط إن كانت، ومعلوم أن مصب الإشهاد إنما هو المقصود بالذات فلا يشمل غيره لأنه إنما يعتمد فيه الشاهد على ذكر المتعاقدين ولهذا يقول عقب الحكاية في علم من علمه وإنما لم يقل بذكرهما لوضوحه عند الموثقين... قال سيدي العربي الفاسي البيع على الحكاية جائز وبه جرى العمل. وقال الونشريسي في الفائق: اعلم أن مدار الوثائق على ما يتضمنه الإشهاد وأما ما يأتي فيها من خبر وحكاية  لم يتضمنه معرفة الشهود فليس يثبت بثبوت الوثيقة إلا أن يزيده الشهود عند شهادتهم أو يشهد بذلك غيرهم...".

- أبو الشتاء الغازي الحسيني الصنهاجي، التدريب على تحرير الوثائق العدلية، مطبعة ومكتبة الأمنية، الرباط، الطبعة الثانية 1995، ج1  ص173-174.

وتعرض الحكاية في وثيقة بيع الصفقة قبل ذكر الشراء بمثل هذه الصيغة: " الحمد لله كان على ملك فلان الفلاني جميع غابة الزيتون أو الدار أو الجنان الكائن بالمدشر الفلاني من القبيلة الفلانية أعلاها كذا وأسفلها كذا ويسارها كذا واستمر ملكه وتصرفه فيه إلى أن توفي عفا الله عنا وعنه فأحاط بإرثه زوجه فلانة بنت فلان الفلاني وأولاده منها فلان وفلان وفلانة لا وارث له سوى من ذكر في علم من علمه حضرت الزوجة نائبة عن نفسها ووافقت على ما حكي من موت وإراثة ومتخلف الموافقة التامة كما حضر معها فلان بن فلان الفلاني واشترى منها وهي بائعة له جميع الغابة المذكورة أو جميع الجنان أو الدار المذكورة والمحدودة...".

- عبد السلام الهواري، شرح الهواري لوثائق بناني، شركة القادريين، فاس، 1949،ص 147-148.

ونرى أن الحكاية تتضمن أقوالا تنسب إلى المتعاقدين فيواجهان بها دون الأغيار، كما هو حال  العقود العرفية بحسب الأصل، ونرى تبعا لذلك أن بيع الصفقة إنما هو بيع تمهيدي يتضمن التزامات بين أطرافه، ولا يصبح تاما إلا بإمضاء الشركاء المصفق عليهم، ونرى بأن الضم الصادر من الشركاء يعتبر أيضا إتماما للبيع لأن الضامين ملزمون بأن يدفعوا للبائع الثمن الحقيقي المناسب للحصة المفردة. 

[7] - محمد ميارة الفاسي، تحفة الأصحاب والرفقة ببعض مسائل بيع الصفقة،، بتحقيق عبد السلام حادوش، منشورة بمجلة الفقه المالكي والتراث القضائي بالمغرب، وزارة العدل، العدد الأول، السنة الأولى، نونبر 1980، ص 60 -61.

 [8] - ابن معجوز، م.س، ص 244.

 

عن الكاتب

محمد الكويط

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

تابع المدونة من هنا

جميع الحقوق محفوظة

بينة التوثيق والحقوق