مقتضيات الرجوع عن الشهادة (الجزء الثاني)
المطلب الثاني: آثار الرجوع عن الشهادة
تختلف آثار رجوع الشاهد عن شهادته بحسب
الوقت الذي تم فيه الرجوع،[1] ويفرق في هذه
الآثار بين الرجوع قبل الحكم أو الرجوع بعده، غير أن ذلك إنما يتأتى عند الحديث عن
الشهادة الشفوية أمام القضاء، أما الشهادة على ما هي معمول بها في التوثيق العدلي
–خاصة شهادة اللفيف- فتحتاج حكما خاصا في الرجوع لا يميز فيه بين الرجوع قبل الحكم
أو بعده، وإنما يميز فيه بمدى لحوق الضرر بالمشهود عليه أم لا.
ولذلك سنتكلم (أولا) عن آثار الرجوع بحسب
وقته، ثم (ثانيا) عن آثار الرجوع بحسب الضرر.
أولا- آثار الرجوع بحسب وقته.
تختلف آثار الرجوع بحسب الوقت الذي تم
فيه الرجوع، وهذا الوقت لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: تتعلق برجوع الشاهد قبل
الحكم، فإذا رجع الشاهد قبل الحكم فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الحكم بهذه
الشهادة؛[2]
"هذا إذا اعتذر عن رجوعه بأن قال: اشتبه علي مثلا وظننته أنه المشهود
عليه... وإن لم يعتذر فتسقط شهادته وتصير كالعدم ولا يلزمه غرم اتفاقاً".[3]
ويتم التدليل على هذا الرأي المتفق عليه بأن
الحق لا يثبت إلا بالقضاء، والقضاء يثبت بالشهادة، وقد تناقضت وهي شرط الحكم، فإذا
زالت قبله لم يجز كما لو فسق الشاهد، ولأن القاضي زال ظنه في أن ما شهد به الشاهد
حق فلم يجز له الحكم به كما لو تغير اجتهاده.[4]
وإذا تقرر أنه لا يحكم بهذه الشهادة، فقد
اختلف الفقهاء المالكية بخصوص قبول الشهادة منه مستقبلا؛ فذهب المتيطي إلى أن
الشاهد إن كان مأمونا وأتى بعذر تقبل شهادته مستقبلا ولا يؤدب، وإن لم يكن الشاهد
مأمونا ولا أتى بعذر فإنه يؤدب؛ وذهب أشهب وسحنون إلى عدم تأديب الشاهد مخافة أن
لا يرجع أحد في شهادته، وهذا القول هو الذي جرى به العمل. أما ابن القاسم فقد ورد
عنه أن الشاهد يؤدب إذا تراجع في غير شهادته بالزنا، أما في الزنا فيحد حد القذف.[5]
الحالة الثانية: تتعلق برجوع الشاهد بعد
الحكم وقبل الاستيفاء، أي التنفيذ، وبخصوصها اختلف العلماء في نقض الحكم الذي لم
يستوف إذا رجع الشاهد على ثلاثة أقوال؛ أحدها أنه يحكم بهذه الشهادة، إذا كان
المستوفى مالا، فإن كان حدا أو قصاصا فلا يستوفى، وهو مذهب الشافعية،[6] وقول أشهب من
المالكية، الذي رتب عليه أن الشاهد يغرم المال المحكوم به؛ وهو القول الذي رجع
إليه ابن القاسم في آخر أمره في هذه المسألة.[7]
واستدل أصحاب هذا القول عليه بأدلة منها أن
القضاء بهذه الشهادة قد تم، وليس المحكوم فيه مما يسقط بالشبهة حتى يتأثر بهذا
الرجوع، ومنها أن المحكوم به هنا مال، والمال يمكن جبره عن طريق إلزام الشاهدين
بتعويض هذا المال، أما إذا كان المشهود به حدا، فالحدود تسقط بالشبهة، والرجوع
شبهة، والعقوبة لا سبيل إلى جبرها بعد الاستيفاء، فلا يجوز استيفاؤها كما لو
رجع قبل الحكم. ومنها أن الشاهد إذا رجع فإما أن يكون متعمدا في شهادته
تلك، أو مخطئا، فإن كان متعمداً فقد شهد على نفسه بالفسق، فهو متهم بإرادة نقض
الحكم، كما لو شهد فاسقان على الشاهدين بالفسق، وإن قال أخطأت لم يلزم نقض الحكم؛
لجواز خطئه في قوله الثاني بأن اشتبه عليه الحال.[8]
والقول الثاني في هذه المسألة أنه لا ينقض
الحكم مطلقا، سواء كان المحكوم به مالا، أو عقوبة، وهو مذهب الحنفية،[9] وقال به من
المالكية الإمام مالك –نفسه- وتلميذه ابن القاسم –في رأيه الأول قبل أن يتراجع
عنه-، حسبما أورده عنهما التسولي الذي قال: "إذا رجعا (أي الشاهدين) بعد
الحكم، وقبل الاستيفاء كما إذا حكم بغرم المال أو القصاص وقبل استيفائهما رجع، فإن
الحاكم لا ينقض (الحكم) ويستوفي المال والدم ويغرمان (أي الشاهدين) الدية والمال
للمحكوم عليه لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء". [10]وقد ذهب إلى هذا القول من
المالكية أيضا ابن الماجشون، إلا أنه لم ير تغريم الشاهدين، مستدلا عليه بأنهما
"لو غرما حيث لم يتعمدا الزور لتورع الناس عن الشهادة مع كثرة الاحتياج
إليها".[11]
ومما استدل به أصحاب هذا الرأي على قولهم في
عدم نقض الحكم أن الشهادة والرجوع عنها سواء في احتمال الصدق والكذب، إلا أن
الشهادة ترجحت بالقضاء فلا ينقض الحكم بالرجوع؛ وأن الشاهد إذا رجع عن شهادته كان
آخر كلامه يناقض أوله، فلا ينقض الحكم بهذا التناقض.[12]
والقول الثالث يرى نقض الحكم مطلقاً، سواء
كان المحكوم به مالاً، أو عقوبة، وهو قول سعيد بن المسيب، والأوزاعي الذي اختاره
الشوكاني[13] الذي استدل عليه
بقوله: "ومع الرجوع تسقط شهادته من غير فرق بين كونها قبل الحكم أو بعده؛ وأي
تأثير للحكم مع بطلان مستنده؟...، ولا فرق بين الحد، والقصاص وغيرهما".[14]
والذي يترجح لدينا هو القول الأول، لكونه
يشكل وسطا بين الآراء ولقوة أدلته؛ أما استدلال أصحاب القول الثاني فيمكن
التسليم به إذا كان الحكم متعلقا بالمال، أما إذا كان الحكم متعلقا
بالعقوبة فلا يتم استيفاء الحكم احتياطا؛ لعدم إمكان الرجوع على الشاهد بما أتلف
بموجب شهادته.
أما استدلال أصحاب القول الثالث فيجاب عنه
بأن الحكم إذا ثبت بالاجتهاد المرجح لصدق الشهود في الشهادة، لم ينقض بالاحتمال
المترتب عن جواز كذب الشهود في الرجوع.
الحالة الثالثة: تتعلق برجوع الشاهد بعد
الحكم وبعد الاستيفاء، أي التنفيذ، فإذا رجع الشاهد بعد القضاء، واستيفاء المحكوم
فيه، سواء كان المستوفى مالاً أو كان عقوبة، فإن الحكم لا ينقض؛ وذلك لأن هذا
الحكم قد تأكد عن طريق استيفاء المحكوم فيه، فإن كان مالا فهذا المال انتقل من
المحكوم عليه إلى المحكوم له، وإن كان عقوبة فهذه العقوبة قد نفذت في حق المحكوم
عليه؛ ولأن الشاهد المتراجع قد يكون صادقا في الشهادة ومحتمل الكذب في الرجوع
عنها، وقد يكون كاذبا في الشهادة ومحتمل الصدق في الرجوع عنها، وليس أحد هذين
الأمرين بأولى من الآخر فلا ينقض الحكم بأمر مختلف؛ ولأن الشهادة، والرجوع عنها
سواء في احتمال الصدق والكذب، إلا أن الأولى ترجحت بالقضاء فلا ينقض بالثاني.[15]
وعلى القول بأن الحكم لا ينقض بعد التنفيذ،
فإن الآثار المترتبة عنه تختلف بحسب موضوع الشهادة المتنازع فيها، فقد يكون متعلقا
بالأحوال الشخصية، أو بالعقوبات، أو بالأموال.
وسنقتصر هنا على آثار الحكم المنفذ فيما يخص
الأموال. فإذا كان المشهود به مالا فرجع الشهود بعد الحكم، وبعد الاستيفاء فإنه لا
يرجع على المحكوم له لأخذ المال، وهذا بلا خلاف بين أهل العلم، وما ورد عن
الإمامين ابن المسيب، والأوازعي من القول بنقض الحكم غير المنفذ –حسبما سبق- لا
يلزم منه الرجوع على المحكوم له.
والشهود إذا رجعوا، فإما أن يصدقهم المشهود
له على بطلان الشهادة، وإما أن يكذبهم؛ فإن صدقهم على بطلان شهادتهم فلا ضمان على
الشهود، ويرد المشهود له ما قبضه من مال المحكوم عليه، أو بدله إن
تلف؛ لاعترافه بأخذ هذا المال بغير حق، وإن لم يكن قبض شيئا من المال المحكوم
به بطل حقه من المشهود به.[16]
أما إن كذبهم فإن الفقهاء اختلفوا في
تغريم الشهود على رأيين؛ فالرأي الأول ذهب إلى أن الشهود يغرمون ما
أتلفوه من مال سواء كان المال قائما، أو تالفا، وسواء كان المال دينا، أو عينا،
وهو مذهب الحنيفة والمالكية، والحنابلة والصحيح عند الشافعية.[17]
وتم الاستدلال على هذا الرأي بأدلة منها أن
الشهود أخرجوا المال من يد مالكه بغير حق، وحالوا بينه وبين ماله كما لو أتلفوه؛[18] ومنها أن شهادتهم
وقعت سببا إلى الإتلاف في حق المشهود عليه، والتسبب إلى الإتلاف بمنزلة المباشرة
في حق مسببه.
ورد هؤلاء على من يقول بأن الشهود لما رجعوا
عن الشهادة تبين أن قضاء القاضي لم يصح، وأن المدعي أخذ المال بغير حق، فلزم أن
يرده إلى المشهود عليه، بقولهم إنه بالرجوع لم يتبين بطلان القضاء؛ لأن الشاهد غير
مصدق في الرجوع لا في حق القاضي، ولا في حق المشهود له؛ وذلك لوجهين؛ يتعلق أحدهما
بأن الرجوع يحتمل الصدق والكذب، والقضاء بالحق للمشهود به نفذ بدليل من حيث
الظاهر، وهو الشهادة الصادقة، فلا يبطل الظاهر بالشك والاحتمال؛ ويتعلق الثاني بأن
الشاهد في الرجوع عن شهادته متهم في حق المشهود له؛ لجواز أن المشهود عليه غره
بمال أو غيره؛ ليرجع عن شهادته، فيظهر كذب المدعي في دعواه، فلم يصدق في الرجوع في
حق المشهود له للتهمة، إذ التهمة كما تمنع قبول الشهادة، تمنع صحة الرجوع عن
الشهادة.[19]
والرأي الثاني ذهب إلى أنه لا يضمن
الشهود شيئا، وهو قول لأبي حنيفة وقول عند الشافعية، شريطة أن يكون
الشهود على حالتهم وقت الأداء.[20]
ويستدل أصحاب هذا الرأي عليه بأن الضمان
إنما يكون إذ كان تلف وهو في اليد أو كان بالإتلاف، ولم يوجد واحد منهما هنا فلا
ضمان، وبأنه إذا وجد متسبب، ومباشر في المال الذي تلف، فإنه لا عبرة للمتسبب مع
وجود المباشر.[21]
والذي نرجحه هو القول الأول، لصحة ما استدل
به أصحابه؛ أما الدليل الأول لأصحاب القول الثاني، فيجاب عنه بأن الإتلاف إنما وجد
من الشهود عن طريق تسببهم في تلف المال في الموضع الذي يتلف فيه فيلزمهم ضمان ما
تلف بسببهم كشاهدي القصاص، وشهود الزنا، وحافر البئر؛ وأما دليلهم الثاني فيجاب
عنه بأن إيجاب الضمان على المباشر - وهو القاضي – متعذر، كما أن في إيجاب الضمان
على القاضي صرف للناس عن تقلد القضاء.[22]
ثانيا- آثار الرجوع بحسب الضرر.
سبق أن رأينا بأن الفقهاء ربطوا مسألة
الرجوع عن الشهادة من حيث الآثار بزمن ما قبل الحكم وما بعده، ومن أهم الآثار التي
رتبوها على رجوع الشاهد تأديب الشاهد وتغريمه بسبب ما أتلفه بسبب الشهادة المتراجع
عنها، وقد كان السبب الذي جعلهم يربطون الرجوع بأن يكون قبل الحكم أو بعده، أنهم
كانوا في الغالب يتحدثون عن الشهادة الشفوية، وهي التي تؤدى باللسان أمام القاضي،
وهذه الشهادة لا يترتب عنها أي ضرر أو إتلاف لا في المال ولا في غيره، ما دام لم
يحكم بها، فتم استصحاب هذا الحكم على كل الشهادات بما فيها الشهادات اللفيفية التي
لا تكون إلا مكتوبة.
وعليه فإن الضابط الذي ينبغي الاعتماد عليه
في عقوبة الشاهد وتغريمه هو حصول الإتلاف في مال المشهود عليه أو إلحاق الضرر به،
أما إذا لم يترتب عن شهادته شيء من ذلك فإن الشاهد المتراجع لا يغرم مالا ولا
يلزمه شيء، ولا عبرة بعد ذلك أن يكون التراجع تم بعد الحكم أو قبله، وإنما العبرة
بما إذا كان التراجع بعد حصول الإتلاف والضرر أو قبله.[23]
ومما وقعت الإشارة إليه في هذا المعنى من
كلام الفقهاء ما ذهب إليه بعض الشراح[24] في شرح قول خليل:
"وإن كان ببنوة لشخص فلا غرم إلا بعد أخذ المال بإرث"؛[25] إذ قال: "(وإن كان)
رجوعهما عن شهادتهما (ببنوة) بأن ادعى شخص أنه ابن فلان، وفلان ينكر ذلك فشهد
للابن شاهدان على إقرار الأب بأنه ولدي أو أنه استلحقه وحكم به ثم رجعا (فلا غرم)
عليهما للأب لأنهما لم يفوتا عليه مالا (إلا بعد) موت الأب و(أخذ المال) من تركته
(بإرث) فيغرمان ما أخذه لمن حجبه منه".[26]
وهو ما أكده البعض [27] في شرح هذا الشرح
إذ قال: "قوله: (ثم رجعا) أي عن شهادتهما وقالا إنه ليس ولدا له. قوله: (فلا
غرم عليهما) ينبغي حمله على ما إذا لم تكن نفقته واجبة على الأب وإلا فقد ألزماه
نفقته بشهادتهما فيغرمانها له... قوله: (إلا بعد موت الأب) أي إلا إذا مات الأب
وأخذ الولد المشهود ببنوته ماله بإرث فإنهما حينئذ يغرمان لوارث الأب المحجوب بذلك
الولد قدر ما أخذه ذلك الولد من المال، ثم إن قوله: إلا بعد إلخ استثناء من مقدر
بعد قوله: فلا غرم أي فلا غرم عليهما لأحد من الناس لا للأب، ولا لغيره إلا أن
يموت الأب ويأخذ الولد المشهود ببنوته ماله فإنهما حينئذ يغرمان للوارث".
فالذي يتبين من هذا النص وشرحيه، أن
الشاهدين الذين شـــــــــــهدا لشخـــــــص بأنه ابن شخـــص آخــــــــــر –ظل
ينكر هذه البنوة- ثم حكم قضاء بالبنوة وفقا لشهادتهما، ثم تراجعا عن شهادتهما،
فالمفروض بحسب أقوال الفقهاء التي مرت معنا أن يغرما مالا للأب ما دام أن رجوع
الشاهدين تم بعد الحكم؛ ومع ذلك فلم يلزمهما الغرم للأب - بحسب ما ذهب إليه خليل
والشارحان- وذلك لأن الشهادة التي تم التراجع عنها لم يترتب عليها أي إتلاف لمال
الأب –المشهود عليه أو ضده-.
ولكن يمكن تصور حصول الإتلاف فعلا –في هذه
الحالة- إذا مات الأب وحصل الابن المشهود له، إما على المال كله لعدم وجود وارث
آخر، أو على بعض المال إذا وجد مع الابن وارث أو ورثة آخرون. ففي هذه الحالة فإن
الشاهدين المتراجعين يغرمان المال الموروث كله لفائدة بيت المال إذا كان الابن هو
الوارث الوحيد، ويغرمان النصيب الذي كان سيرثه الورثة الذين حجبهم الابن[28] لفائدة هؤلاء، فيما
لو ورث مع الابن آخرون.
ومحل الشاهد في النصين أن العبرة هي بحصول
الإتلاف، فلما لم يكن إتلاف مع بقاء الأب حيا، لم يغرم الشاهدان شيئا لمن كانت
شهادتهما –المتراجع فيها – ضده، ولما تحقق الإتلاف بموت الأب عن ابنه المزعوم –إن
كان للأب مال- تعين الغرم لفائدة الورثة المحجوبين –حجب نقل أو إسقاط- أو لفائدة
بيت المال.
وقد يتحقق الإتلاف في حياة الأب فعلا، إذا
ما كان الابن المحكوم ببنوته لهذا الأب من الذين تجب لهم النفقة على هذا الأب، إذ
ينبغي أن يغرم الشاهدان المتراجعان لفائدة الأب مقدار ما أصبح ينفقه على الابن
بموجب الحكم. وهذا هو المعنى الذي قيد به الدسوقي كلام الدردير.
ونحن نتساءل في هذه المسألة التي يغرم فيها
الشاهدان للأب المنفق، أو لورثته حول ما إذا كان من الممكن تطبيق قاعدة الغنم
بالغرم؟ وذلك –مثلا- فيما لو ظل هذا الأب ينفق على الابن مدة، ثم كبر الابن وحصل
على مال كثير من تجارته –مثلا- ثم توفي وورثه أبوه، فهل يعيد للشاهدين ما غرماه
له؟
فالذي نراه في هذه المسألة أن الأب يرجع
للشاهدين مالهما –إن كان فيما ورثه ما يفي بذلك- ولكن بشرط أن تكون شهادتهما
الأولى التي تم الحكم بموجبها ناتجة عن النسيان أو الخطأ، أما لو كانت ناتجة عن
الكذب والزور فإن ما غرماه يعد –في نظرنا- بمثابة عقوبة تكميلية في حقهما –وإن لم
ترد في منطوق الحكم-.
ورأينا هذا مبني على أن الأب غنم الإرث
نتيجة لغرمه النفقة –التي يؤديها الشاهدان على الحقيقة-، والأصل في هذا الغرم هو
الشهادة التي حكم بها، والفرع يدور مع أصله حيث دار، فوجب أن يغنم الشاهدان تبعا
لما غنمه الأب – ما لم تكن شهادتهما الأولى شهادة كذب متعمد أو زور-.
كما تم النص على هذا المعنى –الذي يتعلق بأن
الغرم مرتبط بالضرر والإتلاف سواء حصل قبل الحكم أو بعده- بشكل أكثر وضوحا مع
الفقيه الزرقاني أحد شراح خليل حيث قال: "إذا رجعا (أي الشاهدان) بعد
الاستيفاء بدون حكم، كمن أقام شاهدين بدين على شخص لآخر فدفعه له من غير رفع لحاكم
ثم رجعا، فإنهما لا يغرمان،[29] مع أن الظاهر
غرمهما أيضا...".[30]
فهذا النص يفيد أن الزرقاني يرى أن الشاهدين
يغرمان ما أتلفاه ولو قبل الحكم، وهو ما يستدل عليه من خلال قوله: "مع أن
الظاهر غرمهما أيضا".
وقد تعقب الشيخ محمد الرهوني الشيخ الزرقاني
على هذه العبارة وانتقده من أجلها قائلا: "وقول الزرقاني: "مع أن
الظاهر غرمهما أيضا"، فيه نظر؛ بل الظاهر هو عدم غرمهما أيضا، لأنه تطوع
بالدفع قياسا على ما قاله فيما إذا قام المشتري على بائع غير مدلس بالبيع، فقد
نصوا على أنه إن قبله بغير حكم، فلا يرد السمسار الجعل، وبحكم رده، والله
أعلم".[31]
فالذي يظهر من هذا التعقيب أن الرهوني لا
يرى تغريم الشاهدين المتراجعين قبل الحكم، إذا أدت شهادتهما إلى ما يظهر أنه إتلاف
لمال المشهود عليه، ولكن رأيه مقيد –على ما يبدو- بالحالة التي يتطوع فيها المشهود
عليه بأداء المال، فهو أداه من باب التطوع أو الصدقة أو الصلح أو الإقرار بهذا
الدين فعلا، فحصول الإتلاف غير محقق إذا ما كان الأمر على هذا النحو، ولو حصل
الإتلاف فإن الرهوني يذهب هو الآخر إلى تغريم الشاهدين ولو قبل الحكم.
فمؤدى قول الرهوني هو نفس ما ذهب إليه
الزرقاني. فهو لم يعقب على الزرقاني من باب تعلق المسألة بالحكم أو عدم تعلقها به،
بل من باب كون الصورة التي ذكرها الزرقاني حصل فيها الإتلاف أم لا؟
ولكي يستدل الرهوني على موقفه قاس مسألة
الدين على مسألة البيع، أي أن من أدى الدين لأجل التطوع ولو لم يثبت في ذمته، يكون
مثل البائع الذي لم يقم بالتدليس والغش، لكن المشتري اتهمه بأنه غشه ودلس عليه،
فرد البائع له ماله واسترجع منه سلعته –وربما عوضه اتفاقيا- ولم ينتظر البائع حتى
يذهب المشتري إلى القضاء، مع أن البائع متأكد من براءته مما رماه به المشتري.
فالعلة التي جعلت البائع يفعل ذلك هي نفسها التي جعلت المدين يدفع للدائن دينه
بالرغم من عدم ثبوت هذا الدين. وهذه العلة هي التطوع بالدفع لأجل الصلح الذي يفيد
اتقاء نزاع بالمحكمة.
وكما أن الشاهدين المتراجعين –في الفرع
المقيس- لم يغرما للمدين، كذلك لم يغرم السمسار –في الأصل المقيس عليه- للبائع بالرغم
من عدم تمام البيع، وذلك لأن كلا من الشاهدين والسمسار لم يتلفوا مالا، ولو أتلفوه
لغرموه ولو قبل أن يحكم القضاء – طبقا للبينة الظاهرة التي تم اكتشاف الخطأ فيها-
بصحة الشهادة بالدين المتراجع فيها، أو ببطلان البيع المدعى فيه التدليس.
ونتساءل بخصوص هذه الحالة التي تراجع فيها
الشاهدان بعد حصول الدائن على المال الذي لم يثبت، هل يمكن للمدين – إن لم يكن قد
أدى المال تطوعا- أن يقيم دعوى ضد الدائن ليسترد المال منه؟ وما الذي سيترتب على
ذلك؟
فلو أن المدين فعل ذلك –أي أقام الدعوى ضد
الدائن- لثبت تراجع الشهود قبل الحكم ولما وجد القضاء بينة يحكم بها نظرا لأن
البينة المتراجع فيها باطلة، وعليه فالمتصور أن القاضي سيحكم بعدم صحة الدين،
ولكنه لن يغرم الشهود لأنهم تراجعوا قبل الحكم، وقد يحكم القاضي لفائدة المدين
باسترداد ما دفعه إن أثبت أنه دفعه للدائن فعلا.
ولو اعتبرنا –في هذه الحالة- القاعدة التي
تقضي برفع الضرر لأمكن للمدين أن يرفع دعوى من باب التضامن على الدائن والشاهدين،
على أساس أن يرجع الشاهدان أو الشاهد الموسر بما غرمه على الدائن.
فالذي يتبين من أقوال هؤلاء الفقهاء أنها
تشير –حسب ما رآه بعض الفقه المعاصر[32] عن حق- إلى أن
الرجوع في الشهادة ليس "مرتبطا دائما بما قبل حكم القاضي وبما بعده، ولا
بالاستيفاء (التنفيذ) أو قبله؛ كما أن علماءنا وإن نصوا على ذلك كقاعدة عامة جريا
على قاعدة التغليب في الشهادة الشفوية أساسا، فإنهم في نهاية المطاف يهدفون إلى
الغاية نفسها، وهي حصول الضرر للمشهود عليه، وإتلاف ماله بسبب الشهادة المتراجع
عنها؛ أو عدم حصول شيء من ذلك، لأن الغالب الأعم أن الشهادة المؤداة باللسان لدى
القاضي وهو في مجلس حكمه لم تكن تسبب –وما زالت- ضررا قبل الحكم بموجبها، لكونها
لم تنتج أثرها إلا بعد الحكم وفقها، ولذلك لم يرتبوا عن مسألة الرجوع عنها قبل
الحكم بها شيئا؛ سوى ما يذكر في الشهادة بالزنا والقذف وما شابههما، بينما تنتج
أثرها –عادة- ويحصل الضرر بموجبها؛ إذا وقع الحكم بمقتضاها، ولذلك أوجبوا التغريم
والتأديب على الشاهد الراجع بعد الحكم.
أما الشهادة المحررة في وثيقة تامة، وفقا
للأوضاع الجاري بها العمل حاليا في مجال التوثيق العدلي، فإنها تنتج أثرها ابتداء
من اليوم الذي تلقيت فيه، ومن ساعتها تترتب عنها التزامات مالية عامة وخاصة، ولا
يتوقف تنفيذها في الأحوال العادية على حكم القاضي، وبالتالي فإن ربط الرجوع عنها بصدور
حكم القاضي والحالة هذه، أصبح غير ذي جدوى عموما، لاسيما إذا لاحظنا أن الحكم
القضائي في وقتنا هذا لا يصير نهائيا إلا بعد قطع مراحل وسلوك مساطر متعددة
وانتظار مدة زمنية معتبرة؛ كما أنه ليست كل الشهادات حاليا –لفيفية كانت أو غيرها-
تعرض على أنظار القضاء في خصومة أو نزاع، بل إنه في كثير من الأحيان يكتفي
المتنازعون بوضع حد لخصوماتهم بمجرد إقامة الشهادة أو الرجوع عنها أو إظهار
وثيقتها، وقراءة ما فيها ويحتكمون إلى ما تضمنته من التزامات وشروط، ولا يلتجئون
إلى القضاء للفصل بينهم.
هذا بالإضافة إلى أن واقعنا اليوم، تغير
كثيرا عما كان عليه سابقا وازدادت أحواله سوءا وقبحا، وصار الناس يشهدون ويتراجعون
ثم ينكرون ويتبرؤون مما شهدوا به بدون ضابط ولا رقيب، وبدون أدنى عتاب أو تأديب،
فتعرضت بذلك أموال وحقوق إلى مزيد من الجحود والضياع".
ولأجل ذلك وعملا بنصوص الشريعة وبمقاصدها
المتظافرة على رفع الضرر، وتطبيقا لما ذكر في نصوص فقهائنا المشار إليها أعلاه،
وحفاظا على الحقوق والأعراض، وقطعا لدابر آفة الشهادة صباحا والرجوع عنها مساء، أو
إنكارها رأسا، وهي الآفة التي شاعت وانتشرت بين الناس في هذا الزمان خاصة في شهادة
اللفيف، يدعو هذا الفقه[33] إلى "ربط
مسألة رجوع الشهود عن شهادتهم أو إنكارهم لها، بما إذا ترتب عنها إتلاف مال أو
تفويت حق للمشهود عليه، أو لم يترتب عنها شيء، فإذا تراجعوا بعد حصول الإتلاف
ولحوق الضرر بالمشهود عليه –كيفما كان نوع الضرر- فإنه ينبغي تأديبهم وتغريمهم ما
فات عنه، سواء وقع الحكم بشهادتهم أو لم يقع، رفع الأمر إلى القضاء أو لم يرفع،
وذلك فيما إذا تبين أنهم تلاعبوا بشهادتهم ورجوعهم عنها، أما إذا تبين أن الأمر
فعلا اشتبه عليهم، ولم يكن في وسعهم –عادة- التأكد من حقيقة ما شهدوا به أو
تراجعوا عنه بعد ذلك، فإنهم عندئذ لا يؤدبون ولا يغرمون؛ وكذلك إذا أشكل الأمر ولم
يتحقق من أمرهم، وهذا فيما إذا كان الرجوع قبل وقوع الحكم بشهادتهم، أما إذا
تأخروا بالرجوع إلى ما بعد الحكم والاستيفاء فالتأديب والتغريم أولى وأحرى".
وهذا الاقتراح الرامي إلى رفع الضرر وعدم
إشاعة التلاعب في ميدان الشهادة هو الذي جنح إليه المشرع المغربي في الفصل 355 من
القانون الجنائي عندما ربط رجوع الشاهد عن شهادته، ومنها الشهادة التي يؤديها عند
العدل –مع شهود اللفيف- بما إذا ترتب عن شهادته ضرر للغير أو لم يترتب، حتى لو كان
التراجع قبل الحكم. فقد جاء في هذا الفصل ما يلي : "يعاقب بالحبس من سنة إلى
خمس سنوات، وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم كل شخص ليس طرفا في
المحرر، أدلى أمام العدل بتصريحات يعلم أنها مخالفة للحقيقة.
ومع ذلك يتمتع بعذر معف من العقوبة، بالشروط
المشار إليها في الفصول 224 إلى 225 من كان قد أدلى، بصفته شاهدا،
أمام العدل، بتصريح مخالف للحقيقة، ثم عدل عنه قبل أن يترتب على استعمال المحرر أي
ضرر للغير وقبل أية متابعة ضده".[34]
وإذا كان هذا الاقتراح الفقهي المدعم
تشريعيا كفيلا بوضع حد لاستهتار الشهود _حسبما تم بيانه_ فلا علاقة لذلك بالناحية
التوثيقية، إذ "ليس هناك ما يمنع العدول من تلقي الإشهاد بالرجوع من شهود
اللفيف كلهم أو بعضهم، سواء كان ذلك قبل الإتلاف أو بعده، قبل الاستيفاء أو بعده؛
بل يجب الإشهاد به ليثبت على الشهود أنهم تراجعوا، ما لم يقع الرجوع لدى قاضي
الحكم، فيعمل به دونما حاجة إلى الإشهاد به لدى العدول".[35]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- كما تختلف هذه الآثار
بالنسبة لشهود اللفيف بحسب ما إذا تراجع بعض الشهود أو تراجع الشهود كلهم، وفي هذه
المسألة تنص المادة 24 من مشروع اللفيف –المشار إليه آنفا- على ما يلي
:"تعتبر ملغاة شهادة الشاهد وحده إذا تراجع عنها، وشهادة اللفيف إذا تراجع
جميع شهودها".
[2]- محمد كمال
الدين ابن الهمام، شرح فتح القدير على الهداية في شرح بداية المبتدي، دار إحياء التراث
العربي، بيروت، تاريخ الطبع غير مذكور، ج 7، ص 478.
- أبو زكريا يحيى
بن شرف النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة
الثالثة، 1412هـ - 1991م، ج11، ص 296.
[3]- التسولي، البهجة، م س،
ج 1، ص 173.
[4]- ابن الهمام، فتح القدير،
م.س، ص 478.
[5]- انظر : التسولي،
البهجة، م س، ج 1، ص 173-174.
[6]- النووي، م س، ج11، ص296
[7]- التسولي، البهجة، م س،
ج 1، ص 174.
[8]- منصور بن إدريس
البهوتي، شرح منتهى الإرادات، دار الفكر، بيروت، تاريخ الطبع غير مذكور، ج3، ص562.
[9]- علي المرغيناني، الهداية
شرح بداية المبتدي، المكتبة الإسلامية، تاريخ الطبع غير مذكور، ج3، ص132.
[10]- البهجة، م س، ج 1،
ص174.
[11]- البهجة، م س، ج 1، ص
174.
[12]- انظر : المرغيناني، م.س،
ج4، ص132.
[13]- محمد الشوكاني، السيل
الجرار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.، ج4، ص208.
[14]- الشوكاني، م س، ج4،
ص208.
[15]- انظر : النووي، م س،
ج11، ص 297.
[16]- انظر : البهوتي، م س،
ج3، ص562.
[17]- انظر : النووي،، ج11،،
ص302.
[18]- البهوتي،
ج3، ص562.
[19]- أبو بكر الكاساني،
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتاب العربي،
بيروت، ط2، 1402هـ.، ج6، ص283.
[20]- النووي، م س، ج11، ص302
[21]- المرغيناني، الهداية، م
س، ج3، ص133.
[22]-انظر : المرغيناني، م س،
ج3، ص133.
[23]- انظر : الحراق، التوثيق،
م س، ج 1، ص 524 وما بعدها.
[24]- أحمد الدردير، الشرح
الكبير، مع تقريرات للعلامة المحقق محمد عليش، مطبعة دار إحياء الكتب العربية عيسى
البابي الحلبي وشركاؤه، ت.ط.غ.م، ج 4، ص 215-216.
[25]- خليل بن إسحاق الجندي،
المختصر في المذهب المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1995، ص 240.
[26]- ما ورد بين القوسين في
هذا النص والذي بعده من كلام الشارحين، وليس من كلامنا.
[27]- محمد ابن عرفة الدسوقي،
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأبي البركات أحمد الدردير، دار إحياء الكتب
العربية، ت.ط.غ.م، ج 4، ص 215-216.
[28]- لنفترض أن الأب المزعوم
لهذا الابن كان له بنت وأخ، فإنه لو لم يرث الابن –المحكوم له بالبنوة- لورث الأخ
النصف، فوجب أن يغرم الشاهدان المتراجعان هذا النصف للأخ. ولنفترض أن الأب الهالك
خلف ابنا حقيقيا وهذا الابن المزعوم، فإن الشاهدين يغرمان نصف المال المتروك
لفائدة الابن الحقيقي، ما دام أنه كان سيرث جميع المال لو لم يكن معه أخوه
المزعوم.
[29]- بحسب القاعدة التي ذهب
إليها الفقهاء، والتي تتعلق بما قبل أو بعد الحكم.
[30]- محمد الرهوني، حاشية
الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، 1306 هـ،ج
7، ص 483.
[31]- محمد الرهوني، م.س. ص
483.
[32]- العلمي الحراق، التوثيق،
م.س، ج 1، ص 526 -527.
[33]- الحراق، التوثيق، م.س،
ج 1، ص 527.
[34]- وقد جاء في
مشروع قانون اللفيف ما يطابق المقتضيات المذكورة أعلاه، فالمشروع يتحدث عن الشهادة
المتراجع فيها قبل الحكم، إذ تنص المادة 21 منه على أنه :"يجوز للشاهد الرجوع
عن شهادته قبل الخطاب على الرسم الذي يتضمنها أو بعده".
وتنص المادة 25 منه على
أنه "يتحمل الراجع في شهادته المسؤولية التي يقررها القانون".
وتنص المادة 26 منه على
أنه "يحق للمتضرر مطالبة الشاهد الراجع بالتعويض عن الضرر الذي لحقه ".
[35]- الحراق، التوثيق، م.س،ج
1، ص 528.