مستند العلم في الشهادة العدلية (الجزء الثالث)
المطلب الثاني: تقوية ودعم المستند
لكي يقوم مستند العلم بالشهادة بالوظيفة
المنوطة به، اشترط الفقهاء - في الشهادات الأصلية خاصة دون الشهادات الاسترعائية-
إذن المشهود له للشاهدين في الشهادة عليه (أولا)، كما اشترطوا لزوم ذكر الإشهاد في
بعض الشهادات (ثانيا).
أولا- إذن المشهود له في بعض الشهادات.
صنف الفقهاء المالكية الشهادات بحسب
ما يحتاج تحملها إلى إذن وطلب المشهد بالشهادة عليه، وإلى ما لا يحتاج إلى ذلك،
إلى صنفين: صنف من القضايا لا يحتاج التحمل فيها إلى إذن من المشهود عليه، لأن
تحمل الشهادة فيه والعلم بالمشهود به، لا يكون اختياريا وإراديا، بل يكون
اضطراريا، وهو ما يحصل أمام الشخص من وقائع مادية بالرغم عنه، أو علمه للعلاقات
بين الناس بسبب المجاورة والمخالطة كمعرفة أن فلان وارث لفلان لكونه ابنه، وتكون
الشهادة هنا استرعائية.
وصنف من القضايا اختلف فيه الفقهاء هل يحتاج
تحمله إلى إذن المشهود عليه، أو لا يحتاج إلى الإذن؟ وهذا يبرز في الإقرار بالحقوق
وفي إنشاء العقود أمام الشخص بدون استدعاء وبدون قصد.
والقول المختار المنسوب إلى الإمام مالك أنه
لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا أن يقول له المقر أو المتعاقدان اشهد علي أو علينا بما
قلناه.
قال ابن القاسم: "وسمعت مالكا يقول
فيمن مر برجلين يتكلمان في أمر فسمع منهما شيئا ولم يشهداه، ثم طلب أحدهما تلك
الشهادة قال: لا يشهد له".[1]
وإذا طلب من الشاهد أن يشهد على الإقرار أو
إنشاء العقود جاز له ذلك اتفاقا، ويكتب الشاهد الموثق حينئذ: أشهد فلان بأن قبله
لفلان كذا... وتكون الشهادة حينئذ أصلية.[2]
بينما في المذهب الحنفي يجوز للشاهد أن يشهد
بما سمع، و بما أبصر، وبكل ما أدركه بالحواس الأخرى، وإن لم يشهد على شيء من ذلك
وقت حصول القول أو الفعل، لكن يشترط أن يدعوه صاحب الحق لأداء الشهادة بعد أن علم
أن له شهادة عنده، فيقول أشهد أنه باع أو أقر أو حكم بكذا...[3]
وقد مال القانون المغربي إلى اتباع رأي
المالكية في هذه المسألة التي يشهد فيها العدلان شهادة أصلية على المقر أو الملتزم
بشيء دون أن يشهدهما على ذلك؛ ويظهر ذلك من خلال نصه في ق.ل.ع على بطلان الشهادة
المعروفة بشهادة الاستغفال،[4] وكذا من خلال ما يستفاد
من مقتضيات مواد قانون خطة العدالة والمرسوم التطبيقي له من أن العدول يتلقون
الشهادات بطلب من أصحابها.
ثانيا- وجوب ذكر عنصر الإشهاد في بعض الشهادات.
مما يسهم في تعزيز مستند الشهادة
ويقطع الطريق على التلفيف وعلى الإنكار من المقر أو الملتزم ما اشترطه أغلب
الفقهاء المالكية في بعض الأمور من أنه لا يصح للشاهد أن يتحملها ولا أن يؤديها
إلا إذا قيل له اشهد علي، فلا يجوز له أن يتحملها بدون إذن المشهود عليه، وهذه
الأمور حددها المالكية في خمسة وهي الوكالة والضمان والتبرعات والشهادة على القاضي
بحكم حكم به أو إعذار أو تأجيل أو تعجيز، أو بما ثبت عنده من تعديل أو ضده وشهادة
النقل.
ففي الوكالة، لا يجوز أن يشهد الشاهدان
بمضمون الوكالة، دون أن يبينا في شهادتهما أن الموكل أشهدهما بهذه الوكالة وإلا
فلا حجية لما شهدا به.[5]
والضمان لا تكون له الحجية
والإلزام إلا إذا أشهد به المرء الشاهدين على نفسه. ولعل السبب في ذلك أن
الضامن –ويسمى أيضا بالكفيل والحميل والزعيم والكفيل-[6] لا
يعلم منه الإيجاب والإلزام على نفسه إلا بإشهاد أو قرينة، تدل على أنه قصد إليه،
وإن لم يصرح به، كأن يأتي إلى الشهود ويصرح لهم بأنه ضامن أو كفيل.[7]
والتبرعات كالحبس والصدقة والهبة والوصية
يعد ذكر الإشهاد شرط صحة فيها "من حيث هي، وفي كل ما كان من غير عوض كالتوكيل
والضمان ونحوهما، ولا يختص الإشهاد بالتبرع على الصغير فقط إذ لا معنى لكونه شرطا
في الصغير دون الكبير كما قد يتبادر، وحينئذ فإذا قال: حبست أو تصدقت أو وكلت أو
أوصيت ولم يقل اشهدوا علي بذلك ولم يفهم من حاله أنه قصدهم إلى الإشهاد عليه، فإنه
لا يصح شيء من ذلك، وكذا لو كتب ذلك ولم يشهدهم عليه فلا ينفذ شيء منه لأنه قد
يقول أو يكتب وهو غير عازم على شيء من ذلك كما صرحوا به في الوصية. وقال ابن
القاسم: مثله في الرجل يقول لولده: أصلح نفسك ولك كذا؛ فإنه إذا لم يشهد لا شيء له
لاحتمال أنه يريد التحريض... وقد قالوا أيضا: إن الموهوب له إذا وهب الهبة وأشهد
فذلك حوز وإلا فلا... وإذا لم يكن حوز إلا مع الإشهاد فكذلك لا تكون هبة إلا معه
أيضا".[8]
فعلى "الموثق (العدل) أن يقول (في
الوثيقة): "أشهد فلان أنه وهب أو تصدق"، وإذا قال في فاتحة الوثيقة:
"وهب فلان أو تصدق أو وكل" يلزم أن يقول في آخرها: "وشهد
على إشهاده بذلك"".[9]
وأيضا كان يجب– عند الفقهاء المالكية-
الشهادة على القاضي[10] بما يصدر عنه من
حكم أو إعذار أو تأجيل أو تعجيز أو بما ثبت عنده من تعديل أو ضده؛ فهذه
الأمور التي تصدر عن القاضي كان لا بد فيها من الإشهاد بأن يقول اشهدوا علي بأني
حكمت على فلان، أو أعذرت له، أو أجلته، أو عجزته أو ثبت عندي عدالة فلان أو جرحته
مثلا.[11]
وفي شهادة النقل فإن من شروط قبولها الإشهاد
بأن يقول الشاهد الأصلي للناقل عنه: اشهد على شهادتي أو ما يرادف ذلك كانقلها عني
أو ما هو بمنزلة ذلك، كسماعه يؤديها عند حاكم، إذ سماعه يؤديها عند حاكم بمنزلة
قوله: اشهد على شهادتي.
وقد نقل المواق عن ابن رشد أنه قال:
"إن سمعه يؤديها عند الحاكم أو سمعه يشهد عند غيره، وإن لم يشهد فالمشهور
أنها جائزة".[12] وإلى شرط الإشهاد في
شهادة النقل أشار خليل بقوله: "كاشهد على شهادتي أو رآه يؤديها، إن غاب
الأصل".[13]
والخلاصة أن الأمور الخمسة
السابقة: وهي الضمان والوكالة والتبرعات والشهادة على القاضي بما صدر عنه من
الأحكام والثبوت ونقل الشهادة، لا بد في كل ذلك من لفظ الإشهاد أو ما
يؤدي معناه وذلك وجوبا؛ وهذا يعني أن تلك الأمور الخمسة لا تقبل فيها الشهادة
الاسترعائية سواء كانت علمية أو لفيفية، وإنما يجب أن تكون أصلية يمليها المشهود
عليه على الشاهد ولا يمليها الشاهد من حفظه.
وقد ورد التسليم بالمقتضيات السابقة عند جل
فقهاء المالكية، [14] بينما خالف ما تقدم من
وجوب اشتراط الإشهاد في الأمور الخمسة الفقيه المالكي التونسي الشيخ التوزري، حيث
قال: "فمن كتب بخط يده حبسا أو صدقة، أو ضمانا، أو قاله بلسانه فإنه يلزمه،
ولو بدون إشهاد... (إذ) الحق أن ما قاله الشخص الصحيح في حال صحته، أو كتبه بخط
يده، يؤاخذ به بمجرد الإقرار به نطقا أو كتابة ولو لم يشهد عليه، لأنه لو كان ذلك
لا يصح إلا بالإشهاد كما قال (التسولي)، لصح فيها الرجوع قبله، ولم يجبر المعطي
على الإقباض قبل الإشهاد، وكلا الأمرين باطل".[15]
واستدل التوزري بكلام الحطاب في كتاب
الالتزامات[16] الذي جاء فيه: "قال مالك في كتاب
الحمالة من المدونة: وإن أشهد رجل على نفسه أنه ضامن بما قضى به لفلان على فلان أو
قال أنا كفيل بما لفلان وهما حاضران أو غائبان أو أحدهما غائب لزمه ما أوجبه على
نفسه من الكفالة والضمان؛ لأن ذلك معروف والمعروف من أوجبه على نفسه لزمه، وقال في
كتاب المديان ومن ضمن لرجل ماله على ميت ثم بدا له فقد لزمه ذلك لأن المعروف إذا
أشهد به على نفسه لزم...".
وعلق الحطاب على كلام مالك في
المدونة قال: "وذكر الإشهاد هنا ليس شرطا في اللزوم، وإنما خرج مخرج الغالب".[17]
ومعنى ما قاله الحطاب أن مالكا– رحمه
الله-لم يذكر إشهاد من ألزم نفسه بالمعروف، من باب أن الإشهاد لازم ذكره، وإنما
ذكر مالك الإشهاد حملا على ما جرت به العادة وخرج مخرج الغالب من أن من التزم بشيء
يعمل على الإشهاد عليه بذلك؛ فترتب على هذا التأويل عند الحطاب أن مالكا لا يلزم
عنده ذكر الإشهاد في الضمان أو الكفالة.
ونحن نرى أن ما ذهب إليه الحطاب – وتابعه
عليه التوزري- حمل لكلام مالك على غير ظاهره بدون موجب، فكلام مالك في كتاب
المديان من المدونة يتمم به ما ذكره في كتاب الحمالة من نفس المدونة، وهو يفيد
بصراحة أن مالك يشترط الإشهاد فيما التزم به الشخص من أوجه المعروف.
ومهما يكن فإن المستفاد من مقتضيات القانون
المغربي ومما جرى عليه عمل العدول أن ذكر الإشهاد أضحى شرطا في كل الشهادات
الأصلية، بل حتى في الشهادات الاسترعائية، خاصة الشهادات العلمية منها لأنها تتطلب
إذنا قضائيا في إقامتها، ولا يأتي هذا الإذن إلا بعد طلب الإشهاد من أطرافه.
وعندما ذكرنا ما دونه الفقهاء بخصوص تطلب
الإشهاد في الأمور الخمسة السالفة، فلكي نخلص إلى أن بعض الشهادات ينبغي أن يكون
تلقيها محصورا في نطاق الوثيقة العدلية دون غيرها حتى لو كانت رسمية. ونخص بالذكر
الشهادات المتعلقة بالوكالات والضمان والتبرعات،[18] فهذه الأمور تتطلب
الإشهاد عند أكثر فقهاء المالكية، والإشهاد على الصفة التي ذكرها الفقهاء أو ما
يقاربها لا يتصور وجوده حاليا إلا عند العدول المنتصبين، ولا يكون عند الموثقين، ولا
عند غيرهم ممن يدخل أو لا يدخل في صنف المهنيين.
على أن ما ذكرناه مما بني على كلام فقهائنا
لا تجري مراعاته في الميدان العملي، لأن الوكالات كان ولا يزال يجري تحريرها
بطريقة عرفية لا إشهاد فيها، ونفس الشيء بالنسبة للتبرعات والضمانات التي لم تشترط
فيها الصفة الرسمية – على الأقل[19]- أو ما شابهها[20] إلا مع دخول م.ح.ع
حيز التطبيق في سنة 2012 ميلادية.
وقد اشترط المشرع توفر عنصر الإشهاد عندما
حصر كتابة العقود المتعلقة بالأوقاف في التوثيق العدلي وكتابة عقود الهبة والصدقة
في العدول والموثقين، وفي ميدان الضمانات، وخاصة ما تعلق منها بالرهون، فإن
كتابتها محصورة في الفئات الثلاث المذكورة بالمادة الرابعة من مدونة الحقوق
العينية إذا كانت هذه الرهون حيازية.
أما الرهون الرسمية الاتفاقية فيمكن كتابتها
ولو عرفيا من قبل أشخاص غير مهنيين؛ ومن الناحية العملية فإن الموثقين هم الفئة
الأكثر انفرادا بكتابة الرهون الرسمية، لأن البنوك هي التي تتعامل بها كثيرا، وهي
تختار التعامل مع الموثقين؛ ومن جهة أخرى فإن الاعتقاد المخطئ بأن العدول لا
يكتبون من التصرفات إلا ما طابق الشريعة الإسلامية، وأن القانون الوضعي يحلل
الفائدة الربوية، يجعل الأطراف يركنون في كتابة الضمانات المقترنة بالشروط الربوية
إلى الموثقين دون العدول.
لكن – عند التمعن- يظهر أن القانون الوضعي
نفسه حرم التعامل بالربا؛ فمما يرتبط بدائرة التعامل في مجال توثيق التصرفات
العقارية ما يتعلق بالشرط المتضمن للفائدة أو ما يعرف بالربا في الشريعة الإسلامية،
إذ قد يعتقد بعض العدول أن توثيق العقود التي تتضمن شرط الفائدة جائز في القانون
الوضعي، وتبعا لذلك فهم يوثقون هذه العقود من منطلق أنهم يمثلون القانون دون الشريعة.
غير أن هذا الرأي مردود بأن القانون لا
يتعارض مع الشريعة بحسب الأصل – خاصة في المجال المدني-، وما بدا من تعارض فينبغي
رده دائما إلى الشريعة التي تعد مصدرا من مصادر القانون، والعنصر الأول من عناصر
النظام العام الذي لا ينبغي أن تخالفه الاتفاقات.
وإذا وجد تعارض بين نصوص القانون بأن بدا
بعضها يحرم أمرا تحرمه الشريعة والبعض الآخر يحلل هذا الأمر، فينبغي قراءة هذا
التعارض في ظل أن القانون كل لا يتجزأ وأنه وحدة متكاملة، إذ أنه في مجموع نصوصه
يشكل فلسفة معينة لا تتعارض مع قواعد النظام العام ولا قواعد الشريعة الإسلامية
التي تعد أهم عنصر في هذا النظام.
ومن أمثلة هذه القراءة التي ندعو إليها
التوفيق بين القاعدة العامة التي تحرم الشرط الربوي أو الإقراض بالفائدة والنصوص
المقابلة لها التي تفيد ظواهرها حلية الربا ومشروعية الإقراض بالفائدة.
فالقاعدة العامة منصوص عليها في الفصل
870 من ق.ل.ع الذي جاء فيه :" اشتراط الفائدة بين المسلمين
باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه سواء جاء صريحا، أو اتخذ شكل هدية أو أي نفع آخر
للمقرض أو لأي شخص غيره يتخذ وسيطا له".
والنصوص المبيحة للفائدة نجدها –مثلا- في
المادة 40 من قانون رقم 33.94 المتعلق بدوائر الاستثمار في الأراضي الفلاحية غير
المسقية التي تنص على ما يلي: "إذا كان الملاك مستفيدين من سلف لإنجاز
العمليات الملقاة على عاتقهم منحته إياهم مؤسسات قرض معتمدة من لدن الإدارة فإن كل
مقترض لا يتحمل سعر الفائدة السنوية المعمول بها لدى المؤسسات المذكورة إلا في
حدود 4%، ويلقى الفرق على كاهل الدولة".
والمادة 162 من مدونة التجارة التي تنص في
مطلعها على ما يلي: "يجوز لساحب كمبيالة مستحقة عند الاطلاع أو بعد مدة من
الاطلاع أن يشترط فائدة على مبلغ الكمبيالة".
فهاتان المادتان يرجعان في أصلهما إلى
الفترة الاستعمارية التي كان يسود فيها نظام الامتيازات، وهو نظام يفترض أنه زال
بزوال الاحتلال، وعليه فلا يجب أن يطبق من النصوص إلا ما يوافق النظام الذي ساد مع
الاستقلال الذي لم يعد –من الناحية القانونية النظرية- يعترف بالامتيازات؛ وهذا هو
النظام العام المغربي الذي تشكل الشريعة الإسلامية أهم عناصره.
وتأسيسا على ما ذكر، لا ينبغي أن يقال بأن
الموثقين يختصون بالكتابة في كل ما يندرج تحت إطار القانون حتى لو تعارض ذلك –بحسب
الظاهر- مع الشريعة الإسلامية، فالموثقون يسري عليهم ما يسري على العدول من وجوب
الالتزام بدائرة المعاملات القانونية التي يفترض أنها لا تتعارض مع دائرة
المعاملات الشرعية.
نعم، قد يكتب الموثقون في هذه الضمانات
المقترنة بالشروط المتضمنة للفائدة اعتقادا منهم بحلية هذه الصور –تبعا
لما أثير في ذلك من اختلافات فقهية- وليس لمجرد مجابهة الشريعة، ولا لأنهم يظنون
أن القانون الوضعي لا شأن له بالشريعة مطلقا؛ أو قد يكتبون من باب الضرورة، خاصة
إذا اندرجت المعاملة في باب القانون الدولي الخاص بأن يكون في المعاملة طرف أجنبي
يقضي قانون بلاده صراحة بحلية الربا، فيخشى مع وجود هذه الحالة على الطرف المغربي
–خاصة إذا كان مؤسسة عامة أو خاصة- أن تتضرر مصالحه إذا انقطعت المعاملة بينه وبين
الأجنبي؛ ففي كل هذه الصور يظهر أن المسألة قابلة للنقاش.
ومن ناحية أخرى فإن الموثقين يكتبون في
الأمور التي تتطلب ذكر الإشهاد–عند جل فقهاء المالكية-وفي غيرها، وهم يعتقدون أنهم
يشهدون، والواقع أنه لا يوجد إشهاد عند الموثقين؛ سواء ذكروه في الوثائق أو لم
يذكروه؛ وسواء أحضر الأطراف شاهدين-في الحالات التي يلزم فيها ذلك–أم لم يحضروا؛
إذ أن الإشهاد المقصود الذي أصل له الفقهاء المالكية لا يتصور وجوده حاليا إلا عند
العدول؛ ولو أن الأمور اختلفت عما كانت عليه من حيث نقصان الجانب العلمي والأخلاقي
عند العدول، ومن حيث عدم التزامهم –عمليا- بالتلقي الثنائي في أغلب الأحيان – ولو
في غير حالات التعذر- ومن حيث أن الأداء عند القاضي لا يتم شفاهيا من قبل العدلين
معا.
ومهما يكن فإنه من الراجح – بحسب السياق
التشريعي والاجتماعي الجاري حاليا – أن المشرع سيستغني عن الإشهاد والرسمية في
وثائق التصرفات العقارية إذا ما أسند تحرير هذه الوثائق بطريقة عرفية – لا رسمية
فيها ولا إشهاد- لطائفة المهنيين المندرجين في فئة وكلاء الأعمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- شرح ميارة على التحفة،
م س، ج1، ص62.
[2]- وإلى هذا الصنف الثاني
أشار ابن عاصم في التحفة فقال:
ويشهد
الشاهــــــــــــــــــد
بالإقرار من
غير إشهاد على المختار
بشرط أن يستوعب
الكلاما مــــــــن
المقـــــــر البـدا والـتاما
[3]- انظر: أحمد إبراهيم
وواصل علاء الدين أحمد إبراهيم، طرق الإثبات الشرعية مع بيان اختلاف المذاهب
الفقهية، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط 4، 2003، ص 168.
[4]- ينص الفصل 422 من ق.ل.ع
في فقرته الأولى على ما يلي: "الورقة الرسمية التي تتضمن الشهادة المسماة:
"شهادة الاستغفال " تكون باطلة بقوة القانون، ولا تكون حتى بداية
حجة".
[5]- قال التسولي: "ففي
ابن سلمون إذا شهد شاهدان بمعرفة الوكالة ولم يبينا في شهادتهما أن الموكل أشهدهما
بها فشهادتهما ساقطة ونحوه في البرزلي عن ابن الحاج ".
- البهجة، م س، ج 1، ص
319.
[6]- جاء في التحفة لابن
عاصم:
وسمي الضامن
بالحميل كذاك
بالزعيم والكفيل
قال التسولي: "وليس
مراده (أي ابن عاصم) بيان ما يسمى به الضامن كما هو ظاهره، وإنما مراده بيان صيغ
الضمان التي ينعقد بها وتدل عليه فإذا قال: أنا زعيم أو حميل أو ضامن أو قبيل أو
غريم... أو مدين أو... فذاك كله ضمان. (قال) عياض: هذه الألفاظ كلها بمعنى واحد
واشتقاق ذلك كله من الحفظ والحياطة فكأن الكافل حافظ وحائط لما ولي من الأمور ولما
التزمه من مال ونحوه. زاد في المدونة لو قال: هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي
فذلك كله حمالة إن أراد الوجه لزمه، وإن أراد المال لزمه...".
- البهجة، م س، ج 1، ص
294-295.
وضمان الوجه هو ما يسمى
اليوم بالكفالة الشخصية وضمان المال هو ما يطلق عليه حاليا: الكفالة العينية.
[7]- أبو الشتاء الغازي
الحسيني الصنهاجي، مواهب الخلاق، مطبعة الأمنـية بالرباط، الطبعة الثانية، 1955، ج
2، ص93.
[8]- التسولي، البهجة، م. س،
ج 2، ص 374-375.
- جعيط، الطريقة المرضية،
م س، ص 155.
[10]- لم يعد محل للشهادة على
القاضي في وقتنا، إلا فيما يعرف برسم التسجيل على القاضي في الشهادات اللفيفية
والنسخ المسجلة، لكن رسم التسجيل على القاضي ألغي من الناحية العملية – في جل
المحاكم- اعتقادا بأن صيغة الخطاب الجديدة لا تستلزمه،
والحال أن صيغة الخطاب الجديدة لا تقضي بإلغاء رسم التسجيل، وإنما ينبغي
تبني هذه الصيغة في جميع الشهادات بما فيها شهادة الثبوت على القاضي المعروفة برسم
التسجيل على القاضي.
[11]- الصنهاجي، مواهب الخلاق،
م س، ج 2، ص 93.
وإلى هذه المسألة أشار
الشيخ خليل بقوله: "ولم يشهد على حاكم قال ثبت عندي إلا بإشهاد منه".
- خليل بن إسحاق الجندي،
المختصر في المذهب المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1995.
[12]- الصنهاجي،
مواهب الخلاق، م س، ج2، ص94.
[13]- مختصر خليل، م س، ص 238.
[14]- كالشيخ التسولي في
مواضع متفرقة من كتابه البهجة، وأبي الشتاء الغازي الحسيني في كتابيه مواهب
الخلاق، والتدريب على تحرير الوثائق العدلية في عدة مواضع، وكذلك الشيخ محمد
العزيز جعيط الفقيه التونسي في كتابه الطريقة المرضية ( م س، ص 155).
[15]- عثمان بن المكي
التوزري، توضيح الأحكام على تحفة الحكام، المطبعة التونسية، الطبعة الأولى 1339
هـ-1921م، ج 1 ص 85.
[16]- المقصود كتاب:
"تحرير الكلام في مسائل الالتزام"، للشيخ محمد الحطاب، وهو كتاب طبع ضمن
كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد بن أحمد عليش، ط:
مصطفى الحلبي 1958.
[17]- التوزري، توضيح الأحكام،
م س، ج1، ص86.
- محمد عليش، فتح
العلي المالك، م س، ج1، ص219.
[18]- ولم نذكر شهادة النقل
لأنها نادرة أو منعدمة عملا، كما لم نذكر الشهادة على القاضي لأن المساطر القضائية
أضحت تجري بخلافها.
[19]- نقول "على
الأقل" لأنه من الممكن كتابة التبرعات عند الموثقين (العصريين) الذين لا
يتوفر عندهم الإشهاد على الصفة التي سطرها فقهاء المالكية.
[20]- نقول "أو ما
شابهها" أي ما شابه الصفة الرسمية لأن المادة 4 من م.ح.ع خولت للمحامين
المقبولين لدى محكمة النقض الكتابة في الحقوق العينية، إلى جانب العدول والموثقين،
وهو ما قد يجعل البعض يظن أن المحامين يكتبون عقودا أشبه بالعقود الرسمية لأنهم
يضعون إمضاءاتهم على العقود، ويصادقون عليها بالمحاكم التي يزاولون في
دوائرها.