بيع الصفقة ومعضلة الشياع (الجزء الخامس)
2- مدى وجوب اقتصار الصفقة على العقار دون المنقول.
تندرج _ في نظرنا_ تحت الشرط الثاني الذي مفاده "أن يكون محل
الصفقة مما يتضرر بالاشتراك فيه، لكونه متخذا للانتفاع بعينه، كالدار، والبستان،
لا في ربع الغلة، كالفرن والرحى" مسألة اختلف فيها الفقهاء تتعلق
بما إذا كان بيع الصفقة خاصا بالعقار فقط، أم يشمل المنقولات أيضا. وفي الجواب على
ذلك يجزم ابن معجوز[1] بأن عامة الفقهاء
المنتمين إلى خطة العدالة يعتقدون بأن "بيع الصفقة خاص بالعقار من دور ورباع
ومتاجر وغيرها من الأصول، (ذاكرا أن) الصواب الذي يتفق مع النصوص أن الصفقة تجري
في العقار وفي غيره من كل مال مشترك توفرت فيه الشروط المذكورة سابقا[2] بما في ذلك من
الحيوانات والعروض والثياب والغلات".
ومن تلك النصوص ما ذكره السجلماسي من أن : "المنصوص أنه (أي بيع الصفقة)
جار في الأصول والحيوان والعروض".[3]
وفي الاستدلال على جواز الصفقة في غلة صيفية أو خريفية نتجت عن أرض مشتركة
وبدا صلاحها، ساق الشيخ ميارة حججا من جملتها أن استمرار الشركة في الغلة يلحق
ضررا بالشركاء، لأنهم غالبا لا يتفاهمون حول قسمتما، وأنه إذا باع أحد الشركاء
نصيبه وحده فغالبا ما يبخس فيه، لأن الناس لا يقدمون غالبا على شراء نصيب في غلة
مشتركة، وأن الفقهاء لا يقصرون الصفقة على الأصول فقط؛ علاوة على أن الصفقة لا
تختص ببيع رقبة المال المشترك فقط، بل تجوز أيضا في بيع المنافع أي الكراء، حسبما
أفتى به الشيخ علي بن هارون.[4]
غير أننا نرى في هذه المسألة، أن نأخذ برأي من يشترط قصر الصفقة على العقارات
دون المنقولات، وذلك لأننا نعتبر أن المنقولات تخضع للفصل 972 من قانون الالتزامات
والعقود،[5] أما العقارات فإننا
نعتبر أنها تخضع لمدونة الحقوق العينية، ثم لقانون الالتزامات والعقود فيما يتناول
موضوعها بصراحة، ثم للفقه المالكي.
ومن هذا الجانب نتناول مسألة خلافية
أخرى، وهي مسألة مستحدثة تتعلق بمدى جواز بيع الصفقة في العقارات المحفظة. فالآراء
النادرة التي اطلعنا عليها في هذا الصدد، كلها ترفض جريان بيع الصفقة على العقارات
المحفظة، لكن بعض الفقه[6] قيد ذلك بالمرحلة
القضائية لا الرضائية، فعند تساؤله عن نطاق تطبيق بيع الصفقة فرق بين مرحلتين
: مرحلة التراضي على الصفقة ومرحلة عدم التراضي، فقال: "في المرحلة الأولى لا
خلاف بشأنها، سواء وقعت الصفقة على عقار غير محفظ أو محفظ أو منقول. فهي لا تخرج
عن مجرد صورة من صور البيع بالتراضي إن في الضم أو الإمضاء والعقد شريعة أطرافه.
لكن في المرحلة الثانية فإن المحكمة إذا ما رفع إليها الطلب بإتمام الصفقة، لن
تحكم به إلا في العقار غير المحفظ بسبب خضوعه لأحكام الفقه الإسلامي. وأما فيما
عداه فالواجب فيه اتباع مسطرة طلب القسمة القضائية، لأن في الشياع قرارات الأغلبية
لا تلزم الأقلية فبالأحرى العكس، وذلك فيما يتعلق بأعمال التصرف، وهو ما نص عليه
القانون صراحة، جاء في الفصل 972 من ق.ل.ع: "قرارات الأغلبية لا تلزم
الأقلية: أ- فيما يتعلق بأعمال التصرف، وحتى أعمال الإدارة التي
تمس الملكية مباشرة..."
وطلب القسمة القضائية ينتهي إلى البيع بالمزاد العلني حينما تستحيل القسمة أو
الانتفاع. جاء في الفصل 259 من ق.م.م: "..تأمر المحكمة إذا كان موضوع القسمة
غير قابل لها ولا لانتفاع كل بحصته ببيعه جملة أو تفصيلا بالمزاد العلني مع تحديد
الثمن الأساسي للبيع".".[7]
وهذا الموقف كان قد اتبعه فيما قبل، ثلة من الفقهاء الفرنسيين في مرحلة
الاحتلال وما بعدها، غير أنهم لم يقولوا بالتقييد المذكور سابقا، فمنعوا الاعتداد
ببيع الصفقة مطلقا سواء في المرحلة الرضائية أو في المرحلة القضائية، وقد اعتمدوا
على أن ظهير 2 يونيو 1915 المتعلق بالتشريع المطبق على العقارات المحفظة،[8] لم يتطرق مطلقا لبيع
الصفقة ولم ينظمه بالمرة.[9]
غير أننا نرى _خلافا للرأي السابق_ أنه لا يوجد ما يمنع من تطبيق قواعد البيع
بالصفقة على العقارات المحفظة، لأن الاستشهاد بالفصل 972 من ق.ل.ع غير مناسب في
هذه المسألة، ما دام أن قواعد ق.ل.ع، سواء قبل فترة الإحالة عليها بمقتضى المادة
الأولى من مدونة الحقوق العينية،[10] أو بعد ذلك لا تتعلق
بتاتا ببيع الصفقة لأنه لم يتم النص عليه مباشرة بكيفية صريحة، ولا نجد هذا النص
الصريح إلا في قواعد ما جرى عليه العمل في الفقه المالكي، فينبغي أن يصار لتلك
القواعد، وتطبق على أساس أنها هي القانون في المسألة، مع ما يستوجبه ذلك من رقابة
محكمة النقض على تطبيق قواعد القانون الداخلي وعدم خرقها؛ وهذا الأمر ينبغي أن يتم
ولو في غياب نصوص مكتوبة صريحة في المسألة.
ثم إن القانون هو الذي أوجب ذلك ضمنيا
عندما نص على أن أحكام الفقه المالكي هي التي تطبق عند عدم وجود النص الصريح في
م.ح.ع أو في ق.ل.ع، وما دام النص الصريح الذي يتناول بيع الصفقة غير موجود، فلا
ينبغي لي أعناق النصوص من أجل القول بوجوده. ويتأكد هذا الأمر إذا ما علمنا بأن
الأصل في المعاملات والعقود هو الإباحة ما لم يرد النص القاطع بالمنع والحظر
والتحريم.
بل إن العمل بمقتضيات بيع الصفقة في
المجال الضيق الذي حدده الفقهاء المالكية، سيقضي على المشاكل التي يخلفها الشياع
بطريقة حضارية لا تستهلك الجهود والوقت، وحتى عند اللجوء إلى القضاء فسيقتصر دوره
على الحكم بإلزام الشركاء بالإمضاء أو الضم، ولن يتطلب الأمر سنوات من التقاضي مع
ما يصاحب ذلك من احتقان.
فالمهم هو الخروج من حالة الشياع، فإن وجدنا سبيلا شبه رضائي إلى ذلك لا يكلف
الجهد والبيروقراطية والمساطر، فلماذا لا نلتجئ إليه؟ ولقد كان الفقهاء الذين
قعدوا لبيع الصفقة عالمين بمسطرة البيع بالمزاد العلني، أو ما يعرف بقسمة التصفية،
مع أن هذه المسطرة نفسها كانت في زمنهم أسهل منها في زمننا؛ ومع ذلك ابتكروا بيع
الصفقة وجعلوه مقتصرا على حالات ضيقة محدودة بشروط دقيقة، وجعلوا البيع بالمزاد
لما سواها.
كما أن اللجوء إلى هذه
الطريقة الحضارية له أثر في إحياء صيغ العقود مع ما يصاحب ذلك من نمو اقتصادي بفضل
ضخ الأموال في خزينة الدولة عن طريق الرسوم والضرائب، وسلم اجتماعي يقل معه
الاحتقان والبطالة.[11]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - ابن معجوز، م.س،
ص 255.
[2] - يقصد الشروط التي
جرى عليها العمل.
[3] - العمل الفاسي،م.س،
ص 176.
[4] - انظر : العمل
الفاسي،م.س، ص 187.
[5] - سبق أن رأينا بأن
هذا الفصل استشهد به بعض الفقهاء لرفض مقتضيات بيع الصفقة جملة.
[6] - عبد الرحمان بلعكيد، وثيقة
البيع النظر والعمل، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثالثة 2001، ص 312.
وقد سبق أن رأينا موقفه
الأخير الرامي إلى عدم الاعتداد ببيع الصفقة مطلقا لأنه اعتبره صورة غير جائزة من
صور بيع ملك الغير.
[7] - بلعكيد، وثيقة
البيع، م.س، ص 312-313.
[8] - وهذا الظهير هو
المعروف اختصارا بظهير 19 رجب، وقد ألغي بمقتضى مدونة الحقوق العينية، وهي نفسها
لم تنظم بيع الصفقة ولم تتضمن مقتضيات صريحة بخصوصه.
. Decroux,Op.cit ,p 29.
[10] -
تنص المادة الأولى من م.ح.ع على ما يلي: "تسري مقتضيات هذا القانون على
الملكية العقارية والحقوق العينية ما لم تتعارض مع تشريعات خاصة بالعقار.
تطبق مقتضيات الظهير
الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 12 أغسطس 1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود في
ما لم يرد به نص في هذا القانون. فإن لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى
به العمل من الفقه المالكي".
[11] - ذكرنا "البطالة"
هنا، لأنه لا معنى لتشغيل أصناف من المثقفين في خطة العدالة، ثم يواجهون بصعوبة
الإشهاد والكتابة في أكثر المجالات خاصة ما تعلق منها بالتصرفات العقارية، فلو
كانوا يجدون ما يكتبونه – مثل بيع الصفقة وغيره- دون عراقيل، لكانت مهنتهم الحرة
كفيلة باستيعاب أفواج من الشباب العاطل عن العمل، وعندما يشتغل العدول تشتغل معهم
فئات أخرى كالكتاب والنساخ وغيرهم.