عنصر السبب في الوثائق العدلية (الجزء الأول)
يعد السبب – في القوانين الوضعية- ركنا من
الأركان العامة للتعاقد، لأن الالتزام الذي لا سبب له أو المبني على سبب غير مشروع
يعد كأن لم يكن.
وفي التشريع المغربي نظم المشرع نظرية السبب
في الفصول من 62 إلى 65 من قانون الالتزامات والعقود (ق.ل.ع).
وباستقراء تلك النصوص يتبين أن المشرع اشترط
في السبب ثلاثة شروط: الوجود والتحقق والمشروعية.
وباستعراض تلك الشروط –فيما يأتي- سيظهر لنا
ما إن كان المشرع قد أخذ بالنظرية التقليدية أم النظرية الحديثة للسبب، لأن جنوحه
إلى إحدى هاتين النظريتين له تأثير على التصرفات والعقود، وعلى الوثائق التي تفرغ
فيها تلك التصرفات، ومنها الوثائق العدلية. وهذا الأثر التوثيقي لا ينصرف إلى تلقي
الوثيقة وصياغتها فحسب، وإنما يشمل أيضا كيفية النظر إلى الوثيقة والتعامل معها
إداريا وقضائيا بعد تمام نشأتها وتكوينها، من جهة ركن السبب على وجه الخصوص. بل إن
النظرة غير المرنة إلى عنصر السبب كانت ولا تزال عاملا في
الإعراض والامتناع عن إنشاء التصرفات وتوثيقها. ومعلوم ما لذلك من أثر
على المجالات الحضارية والثقافية والاقتصادية للمجتمع.
ولذا سنحاول الإحاطة بأهم الجوانب التي تقوم
عليها نظريتا السبب التقليدية والحديثة (مطلب أول)، لكي نخلص بعدها إلى شروط السبب
(مطلب ثاني).
المطلب الأول: السبب بين النظرية التقليدية والنظرية الحديثة
تطورت نظرية السبب بعد ما عرفته من صراع[1] بين أنصار النظرية
التقليدية (أولا) وأنصار النظرية الحديثة (ثانيا).
أولا- السبب في النظرية التقليدية.
ساهمت الصياغة الرومانية الشكلية
كثيرا في تكييف نظرية السبب التي نقلها الفقيه دوما عن الفقهاء المدنيين فأصبحت هي
النظرية التقليدية.
والسبب يرد في النظرية التقليدية
بمعنى السبب القصدي، ذلك أن هذه النظرية تميز بين السبب
الإنشائي والسبب الدافع والسبب القصدي. وتعرف السبب الإنشائي بأنه مصدر
الالتزام مثل العقد والقانون والإثراء بلا سبب والعمل غير المشروع وتستبعده لأجل
ذلك، وتعرف السبب الدافع بأنه الباعث الذي دفع الملتزم إلى ترتيب الالتزام في ذمته
كأن يكون الباعث على شراء المنزل هو تخصيصه للسكن أو جعله ناديا للقمار أو لمزاولة
التجارة، وهو شيء خارجي عن العقد لا يذكر في الالتزام بالضرورة ولا يستخلص حتما من
الالتزام، وهو شيء ذاتي للملتزم يرجع إلى نواياه وما يتأثر به من دوافع، وهو شيء
متغير لا في كل نوع من العقود فحسب بل في كل عقد على حدة، فالباعث للمشتري في عقد
غير الباعث للمشتري في عقد آخر. وهذه الخصائص الثلاث التي يتميز بها الباعث جعلته
– في النظرية التقليدية- غير منضبط فتم استبعاده هو الآخر من دائرة التأثير في
وجود العقد أو انعدامه. إذ يبقى العقد صحيحا والالتزام تاما مهما كان هذا الباعث
مخالفا للنظام العام.
ووقفت النظرية التقليدية عند السبب القصدي،
وإذا أطلقت كلمة السبب عنته بهذه الكلمة. وهو يعرف عادة بأنه الغاية المباشرة أو
الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه، فيختلف السبب عن
الباعث في أن السبب هو أول نتيجة يصل إليها الملتزم أما الباعث فغاية غير مباشرة
تتحقق بعد أن يتحقق السبب ولا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء الالتزام.
وخصائص السبب في النظرية التقليدية هي على
النقيض من خصائص الباعث الذي استبعدته هذه النظرية. فالسبب عندها شيء داخلي في
العقد يستخلص حتما من نوع العقد ومن طبيعة الالتزام ذاته، وهو شيء موضوعي لا تؤثر
فيه نوايا الملتزم، وهو غير متغير فيبقى واحدا في نوع واحد من العقود، ولا يتغير
بتغير البواعث والدوافع.[2]
"والعيب الجوهري في هذه النظرية ليس في
أنها غير صحيحة؛ فهي حتى لو كانت صحيحة، عقيمة على كل حال. وهي لا تضيف شيئا إلى
الثروة القانونية، إذ هي تحدد السبب في أنواع العقود المختلفة تحديدا آليا، وتطلب
فيه شروطا ثلاثة (هي الوجود والصحة والمشروعية)...".[3]
فالنظرية التقليدية تحرص على أن
تشترط وجود السبب ، وتستخلص من ذلك أن السبب إذا لم يكن موجودا
فإن الالتزام لا يقوم.
" وتأتي لذلك بمثلين: مثل من أكره
على إمضاء التزام ليس له سبب، ومثل من أمضى سند مجاملة عن بينة واختيار.
فإذا أكره شخص على إمضاء سند لسبب لا وجود
له، كقرض لم يتم، فإن العقد يكون باطلا. ولا يكفي هنا استظهار الإكراه، فإنه يقتصر
على جعل العقد قابلا للإبطال بينما العقد باطل كما قدمنا. ولكن على أي أساس يقوم
بطلان العقد؟ تقول النظرية التقليدية إن الأساس هو انعدام السبب، إذ الالتزام
بالمديونية سببه القرض والقرض لم يتم".[4]
فالالتزام في العقد الملزم للجانبين سببه،
كما تقول النظرية التقليدية، الالتزام المقابل.
إذ "في العقود الملزمة للجانبين سبب
التزام كل من المتعاقدين هو التزام الآخر. مثل ذلك عقد البيع، يلتزم البائع فيه
بنقل ملكية المبيع، وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد البائع أن
يحققه من وراء التزامه بنقل ملكية المبيع- هو التزام المشتري بدفع الثمن. ويلتزم
المشتري بدفع الثمن، وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد المشتري أن
يحققه من وراء التزامه بدفع الثمن- هو التزام بنقل ملكية المبيع. وقل مثل ذلك في
العقود الأخرى الملزمة للجانبين، كالمقايضة والإيجار وعقد المقاولة وعقد
العمل".[5]
أما "في العقود الملزمة لجانب واحد،
إذا كان العقد عينيا (والعقد العيني يعد عقدا ملزما لجانب واحد حسب جمهور الفقه)،
قرضا كان أو عارية أو وديعة أو رهن حيازة يكون سبب التزام المتعاقد الملتزم (حسب
النظرية التقليدية) هو تسلمه الشيء محل التعاقد. فالمقترض يلتزم برد القرض لأنه
تسلمه، وهذا هو الغرض المباشر الذي قصد إلى تحقيقه من وراء التزامه...
وفي عقود التبرع السبب في التزام المتبرع هو
نية التبرع ذاتها. فالمتبرع يقصد من وراء التزامه غرضا مباشرا هو إسداء يد للموهوب
له، وهذا هو السبب في تبرعه".[6]
فالنظرية التقليدية ترى
فيما يتعلق بالعقود العينية، أن العقد العيني سببه التسليم، فإذا لم يتم التسليم
لم يقم الالتزام لانعدام سببه. وتقول النظرية التقليدية إن السبب في التبرعات هو
نية التبرع، فإذا لم تكن هذه النية موجودة لم يقم التزام المتبرع لانعدام السبب.
وبخصوص شرط الصحة، فإن هذه النظرية توسعت
وأخذت باصطلاح "الصحة" بدل اصطلاح "الحقيقة" .
فعدم صحة السبب ترجع بحسب النظرية التقليدية
إلى الوهم والغلط والصورية، وترجع هذه النظرية عدم صحة السبب إلى
الأمور التي يثبت بها عكس الصحة وهي: الغلط والوهم ثم الصورية. بينما السبب غير الحقيقي
يقتصر على السبب الصوري.
فدائرة الغلط – الذي يؤدي وجوده إلى قابلية
العقد للإبطال أو ما يسمى بالبطلان النسبي- لا تتميز – عند أنصار هذه النظرية- عن
دائرة السبب – الذي يؤدي عدم وجوده بحسب النظرية التقليدية إلى البطلان المطلق-.
ومن أمثلة السبب الموهوم– بحسب هذه النظرية
التقليدية- أن يتخارج وارث مع شخص يعتقد أنه وارث معه وهو ليس بوارث، فيعطيه مبلغا
من النقود حتى يتخلى عن نصيبه في الميراث، فهذا التخارج باطل لأن سببه موهوم؛ أو
يمضي وارث إقرارا بدين على التركة ويتبين أن الدائن كان قد استوفى الدين من المورث،
فهذا الإقرار باطل لأن سببه موهوم؛ أو يتعهد وارث لشخص موصى له بشيء معين في
التركة أن يعطيه مبلغا من المال في نظير نزوله عن الوصية، ويتبين بعد ذلك أن
الوصية باطلة أو أن الموصي قد رجع عنها، فتعهد الوارث باطل لأن سببه موهوم.[7]
أما بالنسبة للصورية فإن النظرية التقليدية
ترى بأن "العقد الذي يقوم على سبب صوري لا يكون باطلا لصورية السبب، فإن
الصورية في ذاتها ليست سببا في البطلان. ولكن إذا أثبت المدين صورية السبب، فعلى
الدائن أن يثبت السبب الحقيقي. ويكون الالتزام قائما أو غير قائم تبعا لهذا السبب
الحقيقي. فإن كان هذا السبب الحقيقي غير مشروع، وقد أخفي تحت ستار سبب مشروع كما
هو الغالب، سقط الالتزام أيضا، لا لصورية السبب الظاهر، بل لعدم مشروعية السبب
الحقيقي، أما إذا كان السبب الحقيقي مشروعا غير موهوم، فإن الالتزام يقوم بالرغم
من صورية السبب الظاهر".[8]
أما فيما يتعلق بشرط المشروعية، فإن هذه
النظرية اعتبرت المشروعية الشرط الأساسي في السبب.
وهي تنظر إلى السبب من حيث المشروعية وتقول
بأنه هو الذي لا يحرمه القانون ولا يكون مخالفا للنظام العام ولا للآداب. ومشروعية
السبب – عند أنصار هذه النظرية- متميزة عن مشروعية المحل، فقد يكون المحل مشروعا
والسبب غير مشروع.
ومن أمثلة ذلك أنه: "إذا تعهد
شخص لآخر بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود، فإن التزام كل من المتعاقدين
محله مشروع. فقد تعهد الأول بعدم ارتكاب الجريمة، وتعهد الثاني بدفع مبلغ من
النقود، وكلا المحلين مشروع. ولكن سبب التزام الأول بالامتناع عن ارتكاب الجريمة
هو التزام الثاني بدفع النقود، وهذا سبب غير مشروع. وسبب التزام الثاني بدفع
النقود هو التزام الأول بالامتناع عن ارتكاب الجريمة، وهذا أيضا سبب غير مشروع.
ومن ذلك نرى أن كلا الالتزامين لا يقوم لعدم مشروعية السبب، وهذا بالرغم من أن محل
كل منهما مشروع. وكذلك في كل عقد يلتزم فيه شخص بإجازة آخر ليحمله على الالتزام
بما يجب عليه دون إجازة، كالمودع يجيز المودع عنده حتى يرد الوديعة...".[9]
أما في العقود العينية والتبرعات، فبما أن
السبب فيها هو التسليم، فإن ذلك يترتــــب عليه –عند أنصار هذه النظرية اشتراط
مشروعية هذا التسليم. و هو مجرد افتراض لا معنى له على ما سيأتي معنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- للاطلاع على تطور نظرية
السبب وما عرفته من صراع بين أنصار النظرية التقليدية وأنصار النظرية الحديثة،
انظر:
- عبد
الرازق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت،
طبعة 2000، ج 1، ص 340 وما يليها.
[2] - للاطلاع على
السبب في النظرية التقليدية انظر: السنهوري، الوسيط، م س، ج 1، ص 356 وما بعدها.
[3]- السنهوري،
الوسيط، م س، ج 1، ص 366.
[4] - على
أنه من اليسير أن نصل إلى النتيجة ذاتها عن طريق غير طريق السبب. ذلك أننا إذا
اعتبرنا السند تصرفا صادرا عن إرادة منفردة، فهو التزام بدفع مبلغ واجب بعقد القرض،
ولما كان هذا المبلغ لا وجود له لأن القرض لم يتم، فمحل الالتزام معدوم، ويسقط
الالتزام لا لانعدام السبب بل لانعدام المحل. وإذا اعتبرنا السند هو عقد القرض
ذاته، فالتزام المقترض لا يقوم هنا أيضا لأنه لم يتسلم مبلغ القرض، ولا بد من أن
يتسلم المقترض مبلغ القرض حتى يلتزم برده، إما لأن القرض عقد عيني (حسب بعض
التشريعات) لم يتم بالتسليم، وإما لأن القرض عقد رضائي (حسب بعض التشريعات، فيكون
عقدا ملزما للجانبين). وفي الحالين يسقط التزام من أمضى السند، لا لانعدام السبب،
بل لعدم انعقاد القرض أو لعدم تنفيذ الالتزام المقابل.
أما إذا أمضى شخص سند
مجاملة لدائن صوري، فإن قواعد الصورية هنا تكفي وتغنينا عن نظرية السبب. فالسند
صوري. والدين لا وجود له فيما بين الطرفين. أما بالنسبة إلى الغير (حامل السند)
فيؤخذ بالعقد الظاهر.
- السنهوري، م س، ص
366-367.
[5]- السنهوري،
الوسيط، م س، ج 1، ص 357.
[6]- السنهوري، م س، ص 357.
[7]- انظر: السنهوري، م.س،ج
1، ص 359-360.
[8]- السنهوري، م س، ج 1، ص 360.
[9]- السنهوري، م س، ص 360-361.