تفسير صيغ الوثائق العدلية (الجزء الثالث)
المطلب الثاني: قواعد تفسير صيغ التصرفات
بينت الفصول من 463 إلى 473 من ق.ل.ع
بعض القواعد التي يجب على قاضي الموضوع أن يسلكها لاستجلاء ما بالعقد من غموض.
وقد تم التساؤل حول ما إذا كانت هذه القواعد
ملزمة للقضاء أم المقصود بها الإرشاد والتوجيه ليس إلا؟
ولذلك سنبين فيما يأتي مدى
إلزامية قواعد التفسير(أولا)، ومدى إمكانية تطبيق قواعد الفقه الإسلامي في التفسير
(ثانيا)، ثم التعريف ببعض قواعد تفسير العقود والتصرفات (ثالثا).
أولا- مدى إلزامية قواعد تفسير صيغ التصرفات لقضاء الموضوع.
يدخل تطبيق العقد الواضح ضمن مسائل القانون
التي تخضع لرقابة محكمة النقض، غير أن تفسير العبارات الغامضة في العقد يبقى من
أمور الواقع التي تدخل في مجال السلطة التقديرية لقضاة الموضوع.[1]
ويبدو أن السبب في اعتبار تفسير العقد
الغامض مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض، يرجع إلى أن التفسير في هذه
الحالة يقتضي تقصي النية الحقيقية أو المفترضة للأطراف، والوقوف على ظروف التعاقد والتعامل
وما تقضي به قواعد حسن النية... وقد يستدعى الأمر الاستعانة بإجراءات للتحقيق
كالمعاينة والخبرة.
فالمسألة إذن مسألة واقع، لأن قاضي الموضوع
يبحث في عالم النية والضمير ليقتنع في النهاية بأن إرادة الأطراف قد اتجهت إلى
تحقيق غرض معين.[2]
وفي هذا الصدد جاء في قرار لمحكمة النقض
المصرية : "إن لمحكمة الموضوع السلطة في التعرف على حقيقة العقد المتنازع
عليه واستظهار مدلوله مما تضمنته عباراته على الظروف التي أحاطت بتحريره وما يكون
قد سبقه أو عاصره من اتفاقات عن موضوع التعاقد ذاته، فإذا كان يتبين من الحكم أن
محكمة الموضوع وهى بصدد الفصل في الخصومة التي قامت بين الطرفين حول ما إذا كانت
الهبة قد صدرت من الواهب للطاعنين بصفتهما الشخصية أو باعتبارهما نائبين عن أهالي
بلدة معينة لبناء مدرسة بها، قد رجعت – بجانب ما تضمنه العقدان الابتدائي والنهائي
من عبارات- إلى ظروف التعاقد وملابساته واستخلصت من ذلك أن فكرة إنشاء المدرسة قد
ثبتت لدى الأهالي وأن تشييدها كان تنفيذا لهذه الفكرة، وأن الهبة قد صدرت من
الواهب تنفيذا لهذا الغرض، وكان هذا الرأي الذي استخلصته محكمة الموضوع سائغا لا
يجافي المنطق ولا يناقض الثابت بالأوراق فإن الحكم المطعون فيه لا يكون قد أخطأ في
تطبيق القانون...".[3]
وإذا كان الظاهر هو أن القواعد القانونية
التي تبين طرق التفسير قد وردت على سبيل المثال فقط،[4] فإن ذلك
يترتب عليه أن هذه القواعد لا تتعلق بالنظام العام، لأنها مجرد نصائح يستأنس بها
قاضي الموضوع دون أن تكون مفروضة عليه.[5]
ويتم الاستهداء في تعرف النية المشتركة
للمتعاقدين بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين
وفقا للعرف الجاري في المعاملات، فهذه قواعد ليست ملزمة وإنما يستأنس بها القاضي،
وهو حر ألا يتبعها إذا رأى أن اتباعها لا يجدي ولا يؤدي به إلى تعرف نية المتعاقدين،
وهو إذا جهر بذلك لا ينقض حكمه.[6]
ومثل هذا الموقف الذي يدعو إلى اعتبار قواعد
تفسير التصرفات والعقود الغامضة الصيغ، مجرد نصائح وتوجيهات يستأنس بها القاضي ولا
تلزمه في شيء، هو الحري بالاتباع في ظل التشريع المغربي أيضا، إذ أن المشرع، وهو
بصدد وضع النصوص المتعلقة بالتفسير لم يقصد أكثر من مساعدة قاضي الموضوع، ورسم
الطريق أمامه في مسألة موضوعية واقعية لا ارتباط لها بالقانون.[7]
على أنه يستثنى من قاعدة أن تفسير العقد
يمثل مسألة واقع تدخل ضمن السلطة التقديرية لقاضي الموضوع، الحالات التي ينص فيها
المشرع على وجوب اتباع حكم معين، لا على نحو إرشادي وتوجيهي في استخلاص القصد
المشترك للمتعاقدين، وإنما على نحو إلزامي ووجوبي يتحتم على القاضي اتباعه أثناء
قيامه بعملية التفسير،[8] ومن ذلك مثلا ما نص عليه
الفصل 473 من قانون الالتزامات والعقود من أنه " عند الشك يؤول الالتزام
بالمعنى الأكثر فائدة للملتزم".
كما أنه يوجد في الفكر القانوني الفرنسي
فقها وقضاء اتجاه قوي للتضييق من نطاق سريان قاعدة أن تفسير العقد الغامض مسألة
واقع لا قانون، وعلى الأخص بالنسبة إلى العقود ذات الصفة التنظيمية ويعنى بها
العقود التي تكتب في صيغة موحدة لتتكرر في شأن أشخاص كثيرين كالعقود
النموذجية Contrats-types وعقود الإذعان ولاسيما عقد التأمين. وقد توجت محكمة النقض
الفرنسية هذا الاتجاه بالسير عليه في قضائها.[9]
وتعد مسألة العقود النموذجية ذات علاقة –في
نظرنا- بما درج عليه العدول من تكرار بعض الصيغ في العقود، إلى الدرجة التي أدت
إلى الاعتقاد بأن تلك الصيغ واجبة، وأن خلو العقود منها قد يجعل هذه العقود غامضة
مما يتوجب معه تفسيرها، وقد يكون غموضها من باب الشك الذي يفسر لصالح الطرف
الملتزم.
ومن ذلك مثلا ما يرد في بعض العقود من ذكر
عبارة الإبراء من الثمن، فإذا ما ذكرت هذه العبارة في عقد البيع –مثلا- في الحالة
التي يتم فيها أداء الثمن بواسطة شيك، فإن البائع قد يضيع في حقه إذا كان الشيك
بدون مؤونة ؛ إذ لو عمد القضاء إلى اعتبار الشيك ذا قوة إبرائية مثل النقود الناضة
-على عكس الرأي الراجح-[10] فإنه سيفسر الشك
الذي تثيره عبارة الإبراء لفائدة الملتزم وهو المشتري، وبذلك قد يضيع البائع في
حقه لأنه لم يتقاض الثمن.
ولذلك فإن العبارات التلفيفية التي ترد في
العقود، من قبيل الإبراء إنما ينبغي التعامل معها على أنها قرائن بسيطة يتم دحضها
بإثبات عكسها. ولا ينبغي أن يتم التفسير دائما في مصلحة الطرف المدين، فالمسألة
هنا تدخل في عداد قواعد الإثبات أكثر مما تندرج في قواعد التفسير.
ويتعزز هذا الرأي بما ذهبت إليه بعض مواقف
محكمة النقض الفرنسية،[11] من أنه عندما نكون أمام
عقد واضح فيجب على قاضي الموضوع ألا ينصرف عن القواعد العامة الخاصة بالإثبات، أما
إذا كان العقد غامضا فإنها تسمح له بأن يبتعد عن تلك القواعد حيث يسمح بإثبات عكس
ما ضمن بالكتابة عن طريق الشهادة والقرائن.
ومن الاستثناءات على القاعدة المتضمنة أن
تفسير العقود الغامضة يعد مسألة واقع، خضوع تطبيق وتفسير بعض العقود لقواعد الفقه
الإسلامي لا لقواعد قانون الالتزامات والعقود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- تتعلق القاعدة السابقة
بما درجت عليه التشريعات والقضاء في المدرسة اللاتينية (التي ينتمي إليها النظام
القانوني المغربي من حيث أصله العام) بينما لا تنطبق تلك الملاحظة على النظم
الجرمانية ؛ إذ تجدر الملاحظة في هذا الصدد أن المحكمة الألمانية العليا قد
درجت على رقابة تفسير العقود، وكيفما كانت طبيعتها. والسبب في ذلك هو أن المشرع
الألماني يأخذ، كقاعدة بمبدأ الإرادة الظاهرة على عكس القوانين اللاتينية التي
تعتنق مبدأ الإرادة الباطنة في الأصل.
-
انظر: عبد الرزاق السنهوري، نظرية العقد، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1934،
ص 927، هامش 1.
[2]-، محمد الكشبور، رقابة المجلس الأعلى على محاكم الموضوع في
المواد المدنية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2001 ص 188.
[3]- نقض مدني بتاريخ
24 ماي 1962 . مجموعة أحكام النقض 13 رقم 103 ص 499 . حسبـما أشار إليه السنهوري،
انظر : الوسيط، ج 1، م س، ص 684 . هامش رقم 1 .
[4]- محمد شيلح، م س، ص
245 وما بعدها.
[5]- يقول بعض
الفقه الفرنسي في ذلك:
Les règles légales d'interprétation, édictées par les articles 1156 (du droit civil français) et s. n'avaient pas un caractère impératif et étaient des simples conseils donnés au juge
. Ernest .FAYE – La cour de cassation – réédition Paris – 1970
- p 167.
[6]- انظر :
السنهوري، الوسيط، م س، ج 1، ص 496 وما بعدها .
[7]- انظر : محمد الكشبور، م
س، ص 189.
[8]- محمد الكشبور، رقابة
المجلس الأعلى...، م س، ص 187.
[9]- للاطلاع على هذا الموقف
القضائي والفقهي الفرنسي يرجى النظر في :
- عبد الفتاح عبد الباقي،
نظرية العقد والإرادة المنفردة، م س، ص 533.
[10]- الثمن... هو الالتزام
الذي يقع على المشتري مقابل التزام البائع بتسليم الثمن، وينبغي أن يخضع الثمن
لشروطه الثلاثة، وهي : الصفة النقدية، والتحديد أو القابلية للتحديد، والجدية.
وبمقتضى الشرط الأول
فالثمن في عقود البيع ينبغي أن يقدر بالنقود التي تعد وسيلة ائتمان ووفاء وفق عملة
واجبة التداول داخل إقليم الدولة حسب السعر الذي يحدده لها البنك المركزي، والصفة
النقدية هي التي تميز البيع عن سائر العقود الأخرى وخاصة المقايضة والهبة.
والثمن النقدي في عقد
البيع يعني أن الأداء يتم بالنقود الناضة معاينة أو اعترافا أو بواسطة ورقة من
الأوراق التجارية وفي مقدمتها الشيكات، على شرط أن يحصل الأداء فعلا... ولا يقوم
شيء آخر مقام النقد حتى لو قوم بالنقود أو كان له سعر معروف في البورصة أو الأسواق،
وإلا بقي العقد عقد مقايضة.
- انظر: - عبد الرحمان
بلعكيد، وثيقة البيع النظر والعمل، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثالثة 2001 ص
168.
ولئن كان "الأداء
بالنقود الناضة يتمم البيع ويبرئ الذمة، فإن الأداء بالأوراق التجارية (الشيك
والكمبيالة والسند لأمر) أو العمليات البنكية أو البريدية (مثل الدفع والتحويل) لا
يتمم البيع ولا يبرئ الذمة إلا إذا حصل الوفاء الفعلي حقيقة، حتى لو كانت الورقة
التجارية مشهودا فيها بثبوت الرصيد (أو المؤونة)، وعليه لو تعلق الأمر بعقار محفظ
لامتنع على المحافظ تسجيل البيع بالرسم العقاري قبل وقوع الأداء الفعلي أو قبول
البائع لتسجيل البيع ولو قبل استيفائه للمبلغ. والسر في ذلك يرجع إلى أن الثمن
قوام عقد البيع وبدونه ينعدم البيع أصلا".
- عبد الرحمن بلعكيد،
وثيقة البيع، م س، ص 205.
[11]- انظر ذلك عند : محمد الكشبور، م س، ص 189، هامش 143.