نظام الإيداع وكناش التصاريح
في مجال التوثيق، يرتبط استخلاص حقوق الخزينة الناجمة عن تفويت العقارات
بالمعاوضة أو التبرع، بوضعية مشكلة ترتبت عن القصور التشريعي والارتباك في العمل
الإداري. يتعلق الأمر هنا بمسألة الحصول على شهادة الإبراء الضريبي؛ وهي وضعية قد
تسفر –أحيانا- عن ضياع حقوق الخزينة والتشويش على انتقال الملكية للمقتنين.
ولذلك فإن إحداث التوازن بين حق الدولة المالي وحق المقتني في انتقال الملكية
إليه بدون تماطل، لا يتم –في نظرنا- إلا إذا انطلقنا من اعتبار يقضي بأن شهادة
الإبراء الضريبي لا تشتمل إلا على الضرائب السابقة عن التفويت؛ وأن المراجعة
الضريبية _عند اللزوم-[1] والضريبة على
الأرباح العقارية (T.P.I) مرحلتان لا يكون لهما محل من النظر إلا بعد صيرورة عقد
التفويت نهائيا.
هذا مع الإقرار بأن لإدارة الضرائب حقا ثابتا في أن تعمد إلى القيام بجميع
الإجراءات الاحترازية والتحفظية من أجل إجبار البائع على الأداء، لكن في حدود عدم
التعسف على حقوق المشتري الذي انتقلت إليه الملكية عن حسن نية، فلا بد أن يتمتع
بملكيته بدون تشويش، بما يحفظ استقرار المعاملات ويضمن فعالية الاستثمار.
والعمل عند الموثقين يتصدى للمسألة –نسبيا- من
خلال الاستفادة من نظام الإيداع المخول لهم،[2] وهو نـظام يحفظ حقوق
الإدارة الضريبية لأنه يمكنها من غطاء مالي لاستيفائها، إلا أنه قد لا يحمي حقوق
المشتري من التسويف والتماطل.
ومن أجل حفظ حقوق المشتري وحمايته من طول الإجراءات، قد يعمد الموثقون إلى
كتابة مراجع التسجيل المالي على نسخة من العقد –غير تلك التي احتفظت بها مصلحة
التسجيل-[3] وذلك لتمكين المشتري من تقييد حقه العيني بالرسم العقاري في الوقت
المناسب.[4]
أما في خطة العدالة، فإن الوضعية الجبائية الحالية تطرح عراقيل تشريعية
وإدارية تسببت –نسبيا- في الإعراض عن الوثيقة العدلية؛ من ذلك –مثلا- أن الحصول
على شهادة الإبراء الضريبي يخضع لإجراءات طويلة معقدة، كرسها عدم استفادة العدول
من نظام الإيداع.
ولذلك سيظل التساؤل قائما حول مدى ما توفره الوثيقة العدلية للأطراف والإدارات
والمجتمع من ضمانات وحماية للحقوق سواء في مرحلة الصياغة، أو بعد اكتمالها .
ومهما يكن فالمتاح أمام العدول حاليا هو العمل بالنظام المتمثل
في:"كناش التصاريح" الذي أقرته المادة 17 من القانون رقم 16.03 المتعلق
بخطة العدالة.[5] فما هي المقتضيات التي تضمنتها تلك
المادة؟ وهل يمكن أن تحل هذه التقنية محل نظام الإيداع؟ ذلك ما سنحاول بيانه
عبر نقطتين:
أولا- المقتضيات التشريعية المتعلقة بكناش التصاريح.
نصت المادة 17 من القانون رقم 16.03 على ما يلي: "للمتعاقدين الخيار بين أن يقوموا بأنفسهم بالإجراءات المتعلقة بإدارة التسجيل والتنبر وإدارة الضرائب والمحافظة العقارية وغيرها، أو أن يكلفوا أحد العدلين المتلقيين بالقيام بالإجراءات المذكورة بمقتضى تصريح موقع عليه من الطرفين بكناش يحدد شكله بنص تنظيمي".
فقد تضمنت هذه المادة –حسب رأي الدكتور العلمي الحراق- "ما يمكن
اعتباره حقا للعدل وواجبا عليه في نفس الوقت؛ فهو حق له لأنه سيتقاضى أجرا عن
القيام به، وهو واجب عليه لأنه بعد تكليفه بالقيام به سيصبح ملزما ومطالبا به تحت
مسؤوليته...
ويشترط في الإجراءات التي يمكن للعدل أن يتكلف بها نيابة عن المتعاقدين أن
تكون بعدية أي بعد الإشهاد، وأن تكون متصلة -اتصالا مباشرا- بالشهادة موضوع
التلقي، لا أن تكون إجراءات قبلية للتلقي، أو أن تكون لا علاقة لها بالشهادة
موضوع التلقي... وقد عبرت المادة بالمتعاقدين، حيث إنه قبل التعاقد وإتمام الإشهاد
لا يكون الأطراف متعاقدين وبالتالي لا حق لهم في أن يكلفوا أحد العدلين بالقيام
بالإجراءات المذكورة؛ ولأن العدول ليسوا مخولين صفة تمثيل أطراف العقد لدى
الإدارات المذكورة في غير شهادة التلقي إلا بمقتضى وكالة خاصة.
كما أن المقصود بكلمة "وغيرها" الواردة في المادة المذكورة،
أي وغير (هذه) الإدارات كالجماعات المحلية بالنسبة إلى طلب بعض المعلومات المتعلقة
ببعض العقارات ووثائق التعمير ومكاتب الاستثمار الفلاحي فيما يخص بعض الإجراءات
الإدارية المتعلقة بالأراضي الفلاحية الموجودة داخل دوائر الري، وأراضي الضم
والمصالح الغابوية فيما يتعلق بالتعاقد في عقارات الملك الغابوي أو غير ذلك من
الإدارات العمومية... والخاصة التي لها علاقة بالشهادة موضوع التلقي.
ومعلوم أن المستندات التي تبنى عليها الشهادة موضوع التلقي، والتي يتعين
استحضارها قبل التلقي لا تدخل ضمن الإجراءات المذكورة في المادة.
والمراد بالتصريح الموقع عليه من أطراف العقد أو التصرف الموثق، وثيقة على شكل
استمارة بكناش ذي جذور يملؤها الطرفان أو أحد العدلين ثم يوقع عليها المعنيان؛ على
أن يتسلم الطرف المكلف - بكسر اللام- وصلا مقتطعا من الجذر يوقعه العدل المكلف
-بفتح اللام-".[6]
وقد نصت المادة 24 من المرسوم رقم 2.08.378 المتعلق بتطبيق قانون خطة العدالة[7] رقم 16.03 على أن
شكل كناش التصاريح المذكور يحدد بقرار لوزير العدل ووزير المالية.[8]
ثانيا- أهمية تفعيل تقنية كناش التصاريح.
على الرغم من أن المقتضيات السالفة لا تفيد صراحة تخويل العدل صلاحية تلقي الودائع، إلا أن طبيعة الإجراءات الإدارية البعدية المخولة للعدول بموجب كناش التصاريح، تفيد أن الأمر يتعلق بخدمة يكون العدل بمقتضاها وكيلا عن الأطراف في القيام بإجراءات معينة، فيحق له بموجب هذه الوكالة أن يتلقى منهم الأموال والأشياء التي تمكنه من القيام بما التزم به، تحت طائلة المحاسبة والمسؤولية.
ويستفاد ذلك من مجموعة من فصول قانون الالتزامات والعقود (ق.ل.ع.)؛ ومن أهمها
الفصل 908 الذي ينص على ما يلي: "على الوكيل أن يقدم لموكله حسابا عن أداء
مهمته، وأن يقدم له حسابا تفصيليا عن كل ما أنفقه وما قبضه، مؤيدا بالأدلة التي
يقتضيها العرف أو طبيعة التعامل وأن يؤدي له كل ما تسلمه نتيجة الوكالة أو
بمناسبتها".
وكذلك الفصل 909 الذي ينص على ما يلي: "الوكيل مسؤول عن الأشياء التي
يتسلمها بمناسبة وكالته، وفقا لأحكام الفصول 791 و792 و804 و813.
إلا أنه إذا كانت الوكالة بأجر، فإن الوكيل يسأل، وفقا لما هو مذكور في الفصل
807".
والفصل 807 المحال عليه يتعلق بالوديعة، وهو ينص على ما يلي: "يضمن
المودع عنده الهلاك أو الضرر الناتج من أي سبب كان يمكنه التحرز منه:
أولا - عندما يأخذ أجرا عن حفظ الوديعة؛
ثانيا - عندما يتسلم الودائع بحكم مهنته أو وظيفته".
فالظاهر أن في هذا المقتضى القانوني توسعة على العدول؛ وبالرغم من ذلك، فإن
تقنية كناش التصاريح غير مفعلة في جل الدوائر التي يشتغلون بها. وربما يرجع السبب
في ذلك إلى عدم الاعتقاد في جدواها كبديل عن نظام الإيداع الذي يحرص العدول على
المطالبة به في كل مناسبة.
وقد لا تكون هذه المطالبة
ذات سند، إلا طموح العدول إلى المساواة بينهم وبين الموثقين في التمتع بهذا الحق
ما دامت الجهتان معا تزاولان مهام التوثيق الرسمي.
أما الفكرة المبدئية
الطبيعية فتقوم على أن نظام الإيداع اختصاص حصري للإدارة الجبائية، لا يتدخل فيه
لا العدول ولا الموثقون، إلا أن تكون وظيفة هؤلاء مقتصرة على مساعدة الإدارة في
جوانب الإعلام والإشعار والنصح والوساطة، دون أن يشمل ذلك استقبال الودائع
المالية.
وأمام صعوبة حصول العدول
على نظام الإيداع –في الوقت الحالي-، وفي انتظار تفعيل كناش التصاريح والتمتع
بمزاياه، إن لم يتم الاستغناء عنه هو الآخر بنصوص القانون؛ نتمسك بما ذهب إليه بعض
الباحثين[9] عندما اقترح في مجال المعاملات المنصبة على العقارات الجاهزة أن يتم
أداء الثمن وجوبا بين المتعاقدين بواسطة شيك في اسم البائع غير قابل للتظهير مؤشر
عليه من قبل المؤسسة البنكية؛ وهذا الشيك يتسلمه العدلان من المشتري في مجلس العقد
قبل التوقيع على ملخص العقد في مذكرة الحفظ ويشار إلى رقمه ومراجعه في هذا الملخص،
على أن يبقى الشيك تحت عهدة العدلين حيث لا يسلمانه إلى البائع إلا بعد تقييد
العقد في المحافظة العقارية إذا كان العقار المبيع محفظا، أو إلى غاية اكتساب
العقد الصفة الرسمية في حالة كون العقار المبيع غير محفظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - جل الدوائر والمدن بالمغرب
–بحسب علمنا- أصبحت لها لوائح مرجعية لتحديد أسعار العقارات الخاضعة لنفوذها، فهي
منطلق المراجعة الضريبية.
[2] - تنص المادة 33 من قانون التوثيق على ما يلي: "يمنع على كل
موثق:
- أن يتسلم أموالا أو يحتفظ بها مقابل فوائد؛
- أن يستعمل ولو مؤقتا مبالغ أو قيما توجد في عهدته بأي صفة
كانت فيما لم تخصص له؛
- أن يحتفظ بالمبالغ التي في عهدته لحساب الغير بأي صفة كانت، ويجب
عليه وضعها فور تسلمها بصندوق الإيداع والتدبير.
تحدد طريقة تنظيم وتسيير الحساب المفتوح باسم الموثق بصندوق
الإيداع والتدبير بنص تنظيمي".
- القانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق الصادر بتنفيذه الظهير
الشريف رقم 1.11.179 في 25 ذي الحجة 1432(22/11/2011)، ج.ر. عدد 5998 بتاريخ 27 ذي
الحجة 1432 (24/11/2011)، ص 5611.
[3] - في انتظار الحصول على شهادة الإبراء الضريبي.
[4] - من العدول من يعمل بمثل هذه الطريقة في بعض الدوائر.
[5] - قانون رقم 16.03 يتعلق بخطة العدالة الصادر بتنفيذه الظهير
الشريف رقم 1.06.56 بتاريخ 15 من محرم 1427(14 فبراير 2006)، ج. ر. عدد 5400 بتاريخ
فاتح صفر 1427(2 مارس 2006)، ص 567.
[6] - العلمي الحراق، الوجيز في شرح القانون المتعلق بخطة العدالة،
مطبعة كانا برينت، الرباط، الطبعة الأولى 2009، ص 65-66.
[7]- مرسوم رقم 2.08.378 صادر في 28 من شوال 1429( 28 أكتوبر 2008)
بتطبيق أحكام القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة،ج. ر. عدد 5687 بتاريخ 2 ذي
الحجة 1429(فاتح ديسمبر 2008)، ص 4403.
[8] - وقد صدر هذا القرار المشترك لوزير العدل ووزير الاقتصاد و
المالية تحت عدد 2619.10 في 15 من شوال 1431 (24 سبتمبر 2010) وتضمن ستة مواد،
ونشر بالجريدة الرسمية عدد 5882 الصادرة بتاريخ 5 ذي القعدة 1431 (14 أكتوبر
2010)، ص 4698.
وقد حددت المادة الأولى من هذا القرار شكل كناش التصاريح المشار ونصت على أنه
يجب أن يكون طوله تسعة وعشرين (29) سنتيمترا وعرضه واحدا وعشرين (21) سنتيمترا وأن
يكون ذا جذور ومقتطعات وأن يبلغ عدد أوراقه مائة (100) تحمل أرقاما متتابعة؛
وتشتمل كل ورقة على جذر ومقتطعين يحتوي كل منها على مجموعة من البيانات تتمثل في
المحكمة الابتدائية المحدث بدائرتها مكتب العدل المكلف، ونوع الشهادة موضوع
الإجراء، ورقم مذكرة الحفظ المدرجة بها مع ذكر العدد المتتابع والصفحة وتاريخ التلقي،
واسم العدل صاحب المذكرة، والهوية الكاملة للمتعاقد الذي اختار التكليف بالإجراء؛
ويضاف إلى ذلك ذكر اسم العدل الذي قبل القيام بالإجراء، ونوع الإجراء المطلوب
القيام به مع وجوب إفراد كل إجراء بوصل خاص، والوثائق المدلى بها للعدل للقيام
بالإجراء، والمبلغ المالي المقبول من طرف العدل لأداء واجبات الإجراء المطلوب
معبرا عنه بالحروف والأرقام مع ذكر تاريخ حيازته ووسيلة أدائه للعدل، ومبلغ الأجرة
المتفق عليه للقيام بالإجراء المطلوب مكتوبا بالحروف والأرقام مع ذكر مراجع وصل
أداء الأجرة الذي يسلم طبقا للمادة 43 من المرسوم رقم 2.08.378 المشار إليه أعلاه؛
ثم يذيل الجذر والمقتطعان بتوقيع طالب الإجراء وتوقيع العدل المكلف بالإجراء بشكله
بالإضافة إلى المكان والتاريخ.
ونصت المادة الثانية على أنه " يسلم أحد المقتطعين للمتعاقد طالب الإجراء
ويدلى بالمقتطع الآخر للإدارة المعنية رفقة الشهادة موضوع الإجراء ويحتفظ بالجذر
بالكناش المذكور من طرف العدل"؛ والثالثة على أنه " لا يشرع في استعمال
هذا الكناش إلا بعد التأشير على كل أوراقه من طرف القاضي المكلف بالتوثيق"؛
والرابعة على أنه "تحفظ كنانيش التصاريح بالتكليف بمكتب العدل المعني
بالأمر"؛ والخامسة على أنه "يسلم العدل بعد قيامه بالإجراء المطلوب
لطالب الإجراء أصول الوصولات المثبتة لذلك و يحتفظ بنسخ منها".
[9] - محمد المنور، بعض الإشكالات التوثيقية وأثرها على
الالتزامات التعاقدية: دراسة نقدية، مساهمة في أشغال الندوة المنظمة تحت عنوان: "التوثيق
المغربي واقع وآفاق" بمسلك القانون الخاص بالكلية متعددة التخصصات بتازة
24-25 أبريل 2008 مكتبة دار السلام الطبعة الأولى 2010، ص 229 وما بعدها.